صفحات الثقافة

محمد الماغوط: بدوي من الشرق يحمل تاريخه على ظهره كالحطاب!/ عدنان الأحمدي

كنتُ حين أهمُّ بكتابةِ مقالةٍ عن أديبٍ أوفنانٍ أظنُّ أنني أستطيع اللهو واللعب معه والتفنن في خداع نفسي وخداعه وظلمهِ بالكشف فقط عن الجانب المضيء من عملهِ، عن الجانب الأيجابي الذي ترتضيهِ ذائقتي.

فأُفرِحَهُ إنْ هو حيٌ وأُزيدُ أو ربما يزيدُ قولي فيه من بيعِ نتاجه أكثر،حتى وقعتُ في مصيدةِ محمد الماغوط. وأقولها صريحةً أنني هربتُ من محاولاتي الكتابية عنه منذ كتابة السطور الأولى وذلك لإحساسي بأنهُ غير قابلٍ للخداع واللعب. لأن هذا الشاعر الفنان،حقيقيٌ جداً،ولا صفتي الدعي والنفاج تكونان جزأً من شخصيته. فسيرته الحياتية واليومية هي ترجمة لشعره. كما أن شعرهُ ترجمةٌ لحياته وسيرته ويومياته. وكذلك شعره ترجمة لما يعتقد ويفكر. فهو لا يخادع ولايجاملُ ولا يداهن. ولاجتماع هذه الصفات فيه صار شاعراً احتجاجياً متصديا هازئا ساخراً ساخطاً على حالة العِهْرِ السياسي والقيمي المُستَغَلِّ من قِبلِ المتحكمين بالوطن وأمور الناسِ مُنطَلِقاً من شعوره بوحدانية الموقف الأحتجاجي ويمته الغالية الثمن. هذا الموقف الذي يخاله ملكه الشخصي الذي لا يقاسمه فيه أحد.فيقول في قصيدة (منزل قرب البحرمن ديوان غرفة بملايين الجدران) :

وتحت غيوم الكستناء الزرقاء / بين عواء الزنوج/ وصريرالنهود البريه/ حيث يودعني البحرُ وهو يسعلُ ويتنهدُ كرجلٍ مدمنٍ على التبغْ ..

ومنها:

سأغوصُ باتجاه الجزر والأدغال

ومنها:

لن أكون ضجِراً هناك / وأنا أختالُ كالطاووس في غرف الفحم الملتهب/ حيث يتصبب عرقي على الحقائب وغدائر المسافرات/ حاملاً أطفالهن على مداخل الجزر/ ضاغطاً أثداءهن الصغيرة بكتفي وظهري/ رافعاً دفاتري القروية كالسيف البرّاق في وجه العالم أجمع / وفي الليل / عندماتظلم الأمواجُ كالقبور / وتسيل دماء الأسرى تحت الأشرعة الغاربه /سأقف على موجةٍ عاليه/ كما يقف القائد على شرفته / وأصرخُ ، أنني وحيدٌ يا أإلهي..

ان هذا الشعور بوحدانية الموقف الأحتجاجي المدين لجريمة العِهرالسياسي والقيمي المُحَرَّف يصل أحياناً عند بعض الفنانين المرهفين الحسِّ إلى درجة التفرد في الشخصية الأبداعيه الضدية الصِداميه. وهي شخصية مُتْعِبَةٌ ومُتْعَبَةٌ في نفس الوقتإذْ أن أهدافها الكبرى هن التغيير الشامل ،أي أنها ثورية حقيقيهْ. ولقد امتلكها بعض الأنبياء ,منهم الرسول الكريم. أنها مُتعِبةٌ للآخرين ومُتْعَبةٌ وذلك لصعوبة تحقيق الأهداف فيشعر بعضُ أصحابها من الفنانين كالماغوط بالأحباط والفشل والتقزُّم فيوظِّف هذه الحالات في إطلاق صرخات الأحتجاج والأنتصار على التقزيم والتصغير المُذلَّيْنْ. فيقولمن نفس القصيدة:

لقد آن الأوان لتمزيق شيءٍ ما./ للأبحار عنوةً تحتَ مطرٍ حزينٍ حزين /لاكمغامرٍ تلفهُ سيولُ الحقائب والأزهار/ بل كفأرٍخسيسٍ/ كفأرٍ دامع العينين/ يستيقظُ مذعوراً/ كلما ناحت أحدى البواخرْ/ وتألقت مصابيحُها/ كعيون الضباع المبللْ/ يا أرصفة أوروبا الرائعهْ/ أيتها الحجارة الممدة منذ آلاف السنين/ تحت المعاطف ورؤوس المظلاتْ/أما منْ وكرٍ صغيرْ/ لبدويٍّ منَ الشرقْ/ يحملُ تاريخه’ فوق ظهره كالحطابْ.

فأرٌ دامع العينين. أية صورة شعريةٍ هذه؟؟؟ يصغِّرُ فيها الشاعرُ نفْسَهُ، يقزِّمها ليخلق منها كتلةً من الأحساس المرهفالذي يدمع عينَ الفأرحزناً على ما جرى ويجري وسيأتي. إنه الحزن الأبدي الكبير لعمليقٍ كبيرٍ بحجم الفأر، فأر الماغوط… عمليقٌ مهزومٌ وهزيمته قوةٌ تفجيريةٌ تُنطِقُ الصخرَ الأصمّْ .. فيقولفي قصيدة( خوف من ساعي البريد من ديوان الفرح ليس مهنتي) :

أيها السجناء في كل مكان / إبعثوا لي بكلِّ ما عندكم منْ رعبٍ وعويلٍ وضجرْ / أيها الصيادون على كلِّ شاطيء / إبعثو لي بكلِّ ما لديكم من شِباكٍ فارغةٍ ودوار بحرْ / أيها الفلاحون في كلِّ أرضٍ، إبعثوا لي ما عندكم من زهورٍ وخرقٍ باليهْ / بكلِّ النهود التي مُزِّقَتْ / والبطون التي بُقِرَتْ / والأظفر التي اقتُلِعتْ / إلى عنواني.. في أي مقهى / إنني أُعدُّ ‘ملفاً خاصاً’ عن العذاب البشري /لأرفعهُ إلى الله. / فورَ توقيعه بشفاه الجياع / وأهداب المنتظرين / ولكن أيها التعساء في كلِّ مكان / جُلَّ ما أخشاه / أنْ يكونَ الله ‘أُميَّاً ‘.

نعم. إن الماغوط مهزوم، أو يوحي لك بالهزيمة، إلا أنه عصيٌّ على التطويع، مرعبٌ للآخر القوي رغم هزاله واعترافه بهزيمته.حتى أنه فقد ألأمل بانتصار الرب له.

إن بعض قصائد الشاعر تدعوني إلى التأمل في شخصيته والوقوف حذِراً في تحليلها كهذه القصيدة المليئة بالحركة أو الديناميكية والتناقضات. إذْ كما أعرف أن الأعتراف بالضعف والخوف والهزيمة نادراً ما يعرف طريقه (أي الأعتراف) إلى نفسية الأنسان الشرقي ومنه الأديب العربي إذْ أن ثقافة القوة الفولاذية تحتم انتصار الخير على الشر وهزيمة ابليس أمام آدم فلا تعرف مصطلحات الضعف والهزيمة طريقها الى ذهنه ونفسه وروحه، فالبطولة والقوة هما الشخصية المطلوبة وكذلك الادعاء والنفاجة في نسبية الكمال. لذا فأنا أعجب أن يكون منْ يُرعِب الجبابرة بقلمه ضعيفاً مهزوماً، معترفاً بما فيه كما في قصيدة (جناح الكآبة.. من ديوان حزن في ضوء القمر) حيث يقول مناشداً أمه العجوز للاحتماء بها .وهذا في رأيي أجمل وأصدق حالات التعبير الراقي من المشاعر البشرية الحقيقية عندما يفقد الانسان كل أواصر الرحمة مع البشر ومكانه الاحتمائي في وسط المجتمع فلا يجد الأمان والطمأنينة والشعور بالوجود إلا في حضن أمه وعلى صدرها:

مخذولٌ أنا،لا أهلٌ ولا حبيبهْ / أتسكعُ كالضباب المتلاشي / كمدينةٍ تحترق في الليلْ / والحنين يلسع منكبيَّ الهزيلينْ / كالرياح الجميلة، والغبار الأعمى / فالطريق طويله / والغابة تبتعدُ كالرمحْ / مدي ذراعيك يا ُأمي / أيتها العجوز البعيدة ذات القميص الرمادي / دعيني ألمسُ حزامكِ المصدَّفَ / وأنشجُ بين الثديين العجوزينْ /لألمس طفولتي وكآبتي / الدمعُ يتساقط / وفؤادي يختنقُ كأجراسٍ من الدمّْ / فالطفولة تتبعني كالشبحْ / كالساقطة المحلولةِ الغدائرْ..

إن العودة واللجوء الى صدر الأم وحضنها بعد تجارب حياتية قاسية ، تخلق شخصيات قلقة، جادة، عبثية، ساخرةٍ، رافضة، ثورية، صادمة، مهزومة، لامأوى لها سوى الأم. ولقد فسرَّ بعض معارفي من المهتمين بشعر الماغوط هذه العودة تفسيراً مغايراً لما يقصده الشاعر. إذْ في رأيهم أن المقصودة هي سورية الكبرى وليست الأم البيولوجية للشاعر. أما أنا فلا أعتقد سوى ما قلت وفسَّرْتْ. لاسيما وأن صاحبنا شاعرٌ قبل كل شيء ثم شرقي عربي وسوري والأم تلعب دوراًكبيراً في حياة هكذا بشر. لذا كثرت معاني الأمومة في الأدب العربي وفي الأساطير والميثالوجيا والدين الأسلامي منها إذْ منحها أسمى المعاني التبجيلية الراقية.

صحيح ان هدف الماغوط السياسي لم يتحقق ولم يُنجَزْ ودُمِّرَ بالقصد وفق مشروع عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى مثلما لم يتحقق الهدف القومي لمؤسسي حركة القوميين العرب كالعظم وشميل وعزيز علي المصري إلآ أن فترة الصراع مع الغرب والنضال لأجل تحقيقه استمرت لدى السياسيين والأدباء والمفكرين وأثمرت التجربة الناصريه .إلا أن الأحباط والشعور بالفشل والخيبة انتابت وماتزال أرواح وعقول بعضهم فظهرت صفة التشاؤم في نتاجاتهم فجميع صنوف الفن ومحمد الماغوط هو أحد مكونات هذه المنظومة العِقْدِيَّة. فنقرأ في قصيدة (الظل والهجير.. ديوان الفرح ليس مهنتي) نشمُّ رائحة َاحتراقِ الأنفاسِ والأنين وخطابِ الهزيمةِ والضعفِ وكذلك نحسُّ بحرارة القوةِ والأعتدادِ بالنفسِ وحتميةِ الانتصار في آخر المطاف. فهي مزيج سحري يجمع النقائض في الشخصيةِ الثائره. حين يقول:

كلُّ حقول العالم ضد شفتين صغيرتينْ / كل شوارع التاريخ ضدَّ قدمين حافيتينْ / حبيبتي / همْ يسافرون ونحن ننتظرْ / همْ يملكون المشانق / ونحن نملكُ الأعناق / همْ يملكون اللآلي / ونحن نملكُ النمشَ والتواليل / همْ يملكون الليل والفجرَ والعصرَ والنهار/ ونحن نملكُ الجلدَ والعظام / نزرعُ في الهجير ويأكلون في الظل / أسنانهم بيضاء كالأرزْ / وأسناننا موحشة كالغابات / صدورهم ناعمة كالحرير / وصدورنا غبراء كساحات الأعدام / ومع ذلك فنحن ملوك العالم / في جيوبهم عناوين الخونة واللصوص/ وفي جيوبنا عناوين الرعد والأنهار / هم يملكون النوافذ / ونحن نملكُ الرياح / هم يملكون السفن / ونحن نملكُ الأمواج / هم يملكون الأوسمه / ونحن نملك الوحل / هم يملكون الأسوار والشرفات / ونحن نملكُ الحبال والخناجر / والآن، هيَّا لننامَ على الأرصفةِ يا حبيبتي ..

نلاحظ أن أبطال قصائد الماغوط لايشبهون أبطال قصائد وروايات الكثير من الكتاب والشعراء العرب، من حيث جبروتهم وعنجهياتهم وفولاذية السجناء السياسيين الذين لا يخشون الجلاد ولا منصات الأعدام والتعذيب، فلا يعترفون بضعفهم وخوفهم وانهزامهم أمام الطغاة نفسياً وجسدياً، بل تراهم فرحين بما يحدث معهم. وهذا في رأيي أمرٌ خارج حدود طاقة الأحتمال البشري. في حين نرى أبطال الماغوط مغايرين لهذا المثال العنتري فهم كما يصفهم هو وكما تكلمتُ عليهم أنا. ولقد قرأتُ خلال النصف الثاني من القرن الماضي كثيراً من الروايات والقصص العربية التي يتمتع أبطالهن بالقوة الخارقة في كل شيء،في كل أمور الحياة والقدرات البشرية في كل مراحل العمر وحتى الصبا والمراهقه.

هناك اسباب عديدة مكنت الماغوط من احتلاله هذه المكانة الاقليمية والعربية الشاملة منها واقعية المعاناة البشريه وخلوها من المبالغة والأسفاف في الوصف الكاذب مع بساطة اللغة الماغوطية البعيدة عن التقعير والغموض والتي ترتاح لها نفس وعقل وذائقة جميع شرائح الناس الثقافية والمعرفية. وهي أقرب إلى ذائقة العامة ولا تخدش هالات النخبة منهم. فهي لغة قوتها في شعبيتها وبساطتها ونجاحها في إيصال أفكار صاحبها لهم. فهي تحاكي عقول وأذواق ومعاناة الناس جميعاً وتأخذ لبَّ بعض أفراد النخبة المعقدة التكوين النفسي والذهني . ولقد لجأ الشاعر أحياناً إلى استعمال وتوظيف بعض مفردات اللهجة العامية الشعبية بدون غثاثة. وأستطيع القول أن لغته وطريقته في الشعر والمسرح تغاير ما دعا له يوسف الخال. وهذا التغايرفي رأيي هو اختلاف الشاعرية وجدية النضال من أجل تحقيق هدفٍ سياسيٍ معيَّن لدى الأثنين. كما وانه في رأيي أن شاعرنا لهذه الأسباب مع وجود السبب الاضطهادي السلطوي المزمن حصل على حب الجماهير الشعبية لشعره ولأعماله المسرحية التي لعب بعض أدوارها دريد لحام ونهاد قلعي وأكسبت الماغوط شهرةً عربيةً كبيرهْ. لقد أسست أعماله الشعرية والمسرحية لمذهب الأحتجاج بالسخرية اللاذعة والتهكم على الحكام والجلاوزة الجبابرة القساة الغلاظ. ولقد استطاع امتلاك القوة وصلابة الموقف من حب الجماهير له ولفنه الأدبي فاستطاع التحدي بصلابةٍ لقمة الهرم السلطوي وكل طبقاته المكونة له. وفي رأيي أن قصيدته ‘الغجري المعلب من ديوان الفرح ليس مهنتي’ خير ما يؤكد قولي:

بدون النظر إلى ساعة الحائط / أو مفكرة الجيب / أعرف مواعيد صراخي/ وأنا هائم في الطرقات / أصافحُ هذا وأودعُ ذاك/ أنظرُ خلسةً إلى الشرفات العاليه / إلى الأماكن التي ستبلغها أظافري وأسناني / في الثورات المقبله / فأنا لمْ أجعْ صدفه / ولمْ أتشردْ ترفاً واعتباطاً / ما منْ سنبلةٍ في التاريخ إلا وعليها قطرةٌ منْ لعابي / أعرفُ أن مستقبلي ظلام / وأنيابي شموع / أعرفُ أن حدَّ الرغيف سيغدو بصلابة الخنجر / وأن نهر الجائعين سوف يهدر ذات يوم / بأشرعته الداميه / وفرائصه الغبراء / فأنا نبيٌ لاينقصني إلا اللحية والعكاز والصحراء / ولكنني سأظل شاكي السلاح / في قادسية العجين / في واترلو الحساء / التي يخوضها العالم / هكذا خلقني الله سفينةً وعاصفه / غابةً وحطابا / زنجياً بمختلف الألوان كالشفق كالربيع / في دمي رقصة الفالس وفي عظامي عويلُ كربلاء / وما من قوةٍ في العالم / ترغمني على محبة ما لا أحبْ / وكراهية ما لا أكره / ما دام هناك تبغٌ وثقابٌ وشوارع. .

لقد رسمت هذه القصيدة صورةَ الشخصية الماغوطية الأحتجاجية الثائرة التي كانت تمثل صوت جيلنا الغاضب وتبغه وشوارعه الهادرة بهذا السيل الجارف، مثلها مثل قصيدة (خريف الأقنعه من ديوان الفرح ليس مهنتي) التي يقول فيها:

محالٌ..محالْ / أنْ أتخيل نفسي إلا صحراء أو سفينةً في بحرٍ أو قرداً في غابهْ / يقطف الثمار الفجَّهْ / ويلقي بها على رؤوس المارَّه / وهو يقفزُ ضاحكاً مصفقاً / منْ غصنٍ إلى غصنْ ..

ويقول منها:

أنا متسوِّل / ها أنا أشحذُ أسناني على الأرصفهْ / وألحقُ المارّضةَ منْ شارعٍ إلى شارعْ / أنا بطلْ.. أين شعبي / أنا خائنْ.. أين مشنقتي / أنا حذاء .. أين طريقي؟

قلتُ في البداية أنني لا أستطيع اللعب وممارسة الخداع مع الماغوط . وهذا ما أحسُّهُ ساعة اختياري لنماذج من قصائده حيث تنتابني الحيرةُ في الأختيار لأنهن جميعاً مواد مشتعلة صالحة للكلام. ولأنني أنا بطلهن عشتُ وما زلتُ أعيش حالاتهن. لذا فالماغوط كان وما زال يمثل صوتي وجيلي فأحسُّب حياتية هذا الشعر وشاعره..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى