صفحات الحوار

محمد ملص: اللعنة الكبرى لعنة الإيديولوجيات

«سُلَّم إلى دمشق» فيلم عن شباب يواجهون النظام بلا سلاح

نديم جرجورة

بداية، ماذا عن فكرة الفيلم؟

^ بعد صمت، شعرتُ بحاجة كبيرة إلى البحث عن رأي السينما، وموقع هذه السينما الوطنية السورية إزاء ما يحدث في سوريا آنذاك، أي حين بدأت الانتفاضة الشعبية العفوية التي، بالنسبة إليّ، بيّنت الدرجة التي وصل إليها الناس على مستوى عدم القدرة على الاحتمال. كنتُ أحسّ، وأنا أراقب ما يحدث منذ أوائل العام 2011، كم أن الثقافة والسياسة متقاعستان وغائبتان لأسباب عديدة ومختلفة وموضوعية، أخذت متحالفين كثيرين مع هذه الانتفاضة وتطوّراتها إلى الصمت. شعرت بأنه بدلاً من الكلام، لا بُدّ من العمل. أي لا بُدّ من المغامرة بتحقيق فيلم سينمائي ينتمي إلى الناس، كما هو معتاد بالنسبة إليّ. حاولت أن أحقّق دائماً، في بلدي سوريا، أفلاماً تنتمي إلى الناس، وإلى قضاياهم الجوهرية والمصيرية.

آنذاك، كان بين يديّ سيناريو بعنوان «ناموسينما»، كتبته أنا وصديقي الأديب سامر محمد اسماعيل. نصّ يقوم على فكرة العالم الداخلي لمجموعة من الشباب، ومحاولة التعبير عن التآلف الوطني عبر الانتماءات المختلفة لهؤلاء الشباب. شعرنا، أنا وسامر، بإمكان إعادة تركيب هذه الأحداث، وعلاقتها مع هذه الانتفاضة الأولى. معاً، كانت لدينا الرغبة في التعبير عن دمشق اليوم، دمشق التي يلتئم داخلها شبابٌ من مختلف المناطق والطوائف. هكذا تحوّل «ناموسينما» إلى «سُلَّم إلى دمشق».

البيوت العشوائية

إحدى المسائل التي أحببتها كثيراً في الفيلم، كامنة في أن أحداثه تدور في مكان واحد. أي «العالم الداخلي» الذي تحدّثت عنه.

^ كي نكون صادقين، علينا أن نتحدّث عن الفكرة، وليس عن النتيجة التي توصلنا إليها. في الحديث عن الشباب في سوريا اليوم، خصوصاً في واقعهم الراهن، نلاحظ أن كثيرين منهم في مرحلة الدراسة، أو في بدايات الوظيفة. كما هو معروف، لا بُدّ للحديث عن الشباب من أن يقع في مصيدة الحالة التي يعيشها هؤلاء الشباب السوريون: البطالة. غياب فرص العمل. الرغبة في السفر للدراسة في الخارج… إلخ. كل حديث عن الشباب سيُواجه هذه الحالة. والحديث عن الشباب في سوريا كلّها، يضع المرء أمام ظاهرة البيوت العشوائية. شباب كثيرون يسكنون البيوت الدمشقية، باستئجارهم غرفاً فيها.

هذه حقيقة واقعية. لكن، بالنسبة إلي، شكّلت ركيزة درامية وسينمائية لإمكان الحديث عن العلاقات بين هؤلاء الشباب. فعلاً، أعتبر أن هذا الفخّ (البيت) شكّل مرجعية سينمائية مُساعِدة إلى حدّ كبير على تحقيق التصوّر البصري والجمالي لما أسعى إليه، وتحوّل أيضاً إلى بُعد ذي دلالة مجازية ورمزية.

لكن العلاقات القائمة بين الشباب المنتمين إلى فئات اجتماعية وطائفية بدت في الفيلم أقرب إلى المثالية، لشدّة تعاضدهم وتبادل الحب بينهم. أسأل، واضع أمامي التجربة اللبنانية: قيل كلامٌ كثيرٌ عن اللُحمة والتوافق والعيش المشترك بين اللبنانيين قبل اندلاع الحرب الأهلية، فإذا بهم عند اندلاعها يمارسون ابشع أنواع العنف في ما بينهم.

^ هذا سؤال مهمّ جداً، وأهميته نابعةٌ من محاولة تحقيق الفيلم. كانت لديّ مرجعية لم أتخلّ عنها خلال التصوير، لم تكن مناقضة للسيناريو، بل كانت محاولة لتحسينه ليس عبر الخيال، بل عبر الحقائق. لنفترض أن في السيناريو عدداً من الشخصيات، وأن لديّ الفرصة لانتقاء ما يحلو لي من الممثلين، وأن أحفّظهم الحوارات الموجودة في النصّ. لكن، بدلاً من ذلك، وأمام حرصي الشديد على الحديث عن الشباب اليوم، أردتُ أن أكون وفياً للحقيقة وليس للخيال، فقرّرت ألاّ أختار ممثلاً لينحت تمثالاً في الفيلم، بل نحّاتة لتمثّل ليس الشخصية كما هي في السيناريو بل كي تمثّل نفسها. حتى اني احتفظت باسمها الحقيقي بدلاً من الاسم المكتوب في السيناريو.

لن أستعرض الأمثلة كلّها. لكني أردتُ التأكيد لك أن حرصي الأخلاقي وضميري كانا يدفعانني إلى رسم واقعي للشخصيات، كي يلبس الممثل الشخصية في الفيلم، لا كي يكون شخصية داخل الفيلم.

كنتُ أسأل أكثر عن تلك العلاقات القائمة بين الشخصيات/ الممثلين، لأني رأيتها مثالية نوعاً ما.

^ فيلمي عن شباب يواجهون النظام لكنهم لا يحملون السلاح. لارا مثلاً تريد الذهاب إلى حمص لاحتساء كأس من النبيذ. الهوية الوطنية للشخصيات تتدفّق خارج الشاشة إلى درجة منحت الفيلم هويته الوطنية، وليس الخيال السينمائي. مهمّتي أن أتقن أداءهم وتصويرهم وتموضع الشخصيات داخل البناء العام للفيلم، ما يضعني كسينمائي أمام تجربة جديدة، كما أضع أنا السينما السورية أيضاً أمام تجربة جديدة ضرورية، لتقول أين هو مكان السينما إزاء ما يحدث، بعيداً عن التلفزيون، سواء بأعماله الدرامية، أو بكونه راوياً منافقاً.

في الانتفاضة الأولى، قبل أن يتحوّل الصراع في سوريا إلى صراع مسلّح بين قوى حاكمة وقوى مأجورة، كان هذا هو الواقع بين الشباب الأحرار غير المؤدلجين، سواء كانوا مع النظام أو معارضين له. كان هذا هو الواقع. كانت هذه حقيقة. لكن، للأسف، لا أستطيع القول اليوم إن هذه الحقيقة لا تزال موجودة. اللعنة الكبرى هي لعنة الإيديولوجيات، التي حوّلت الجميع إلى قوى عمياء لا ترى إلاّ نفسها.

بلا رقابة وقيود

في كتابك «الكلّ في مكانه، وكل شيء على ما يُرام سيدي الضابط (مفكرة فيلم)» (دار المدى، 2003)، وهو عنوان فيلم التخرّج (الدبلوم) أيضاً، طرحت سؤالاً أودّ استعادته هنا: «لماذا كانت تصادفني الحرب دائماً أثناء تحقيق أفلامي؟ (ص. 7)».

^ صدّقني لا أعرف ما هي دلالة هذا القدر وتلك الصدفة اللذين ركبا على مسار عملي السينمائي بصورة غير منتظرة وغير متوقّعة، وهما يُصادفان المرّات كلّها التي حقّقت فيها أفلاماً. كنتُ أحياناً كثيرة أفكّر في ألاّ أبدأ تصوير فيلم. فأثناء تصوير فيلم الديبلوم، وقعت «حرب تشرين» (1973)، وعند تحقيق «أحلام المدينة»، حدث الاجتياح الإسرائيلي لبيروت (1982)، وخلال تصوير «الليل»، احتلّ العراقُ الكويتَ ووقعت حرب الخليج الثانية «عاصفة الصحراء» (1990)، ومع «باب المقام» احتلّ الأميركيون العراق (2003).

يبدو لي أن هذه الحروب كانت تتقدّم من فيلم إلى آخر، إلى أن وصلت إلى «سُلَّم إلى دمشق» ومسّت الروح، فهي قد نشبت بيننا قبل أن يجتاحها الغرباء. كان من الصعب التصوير بحرية، ما دفع إلى أن يكون الحدث المركزي داخل البيت. وهذا شكّل ركيزة أضافت إلى الفيلم قوّة لا ضعفاً.

في وضع سليم، كانت هناك مشاكل إنتاجية. مع الوضع السوري المختلف يومها (الانتفاضة الأولى)، هل واجهت مشاكل إنتاجية إضافية؟

^ بعد تحقيق «الليل» (إنتاج «المؤسّسة العامة للسينما»)، وشعوري بعدم الحرية في التعامل مع المؤسّسة، رغبتُ في محاولة لتحقيق سينما سورية وطنية مستقلّة عن قطاع الإنتاج في سوريا. شكّل ذلك المزيد من الصعوبات، لكنه شكّل أيضاً المزيد من الحرية في اختيار الموضوع، وفي طريقة معالجته، وفي محاولة التعبير عنه بلا قيود. هذا الفيلم ينتمي إلى هذا النوع من العمل، إذ بدأت تحقيقه وأنا أملك جزءاً يسيراً من ميزانيته. بعد تصويره، كانت استجابة الشركة اللبنانية «آبوت للإنتاج» طيّبة، إذ قدّمت الإمكانيات كلّها لإنجاز الفيلم.

لا نزال قادرين على التحمّل، وعلى البحث. تحمّل صعوبة البحث عن الإمكانيات الإنتاجية، التي تتيح فرصة تحقيق ما نسعى إلى التعبير عنه بلا رقابة وقيود.

أجرى الحوار:

نديم جرجوره

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى