محمود درويش: في حضرة غيابه/ صبحي حديدي
العام 2016 يسجّل مرور 10 سنوات على صدور «في حضرة الغياب»، الكتاب الذي أطلق عليه محمود درويش (1941 ـ 2008) صفة «نصّ»؛ فأدخل العمل في تصنيف كتابي عريض، ولكنه لم يُخرجه من تصنيف الشعر. وما دام «النصّ»، هذا، ليس مجموعة مقالات (على غرار «شيء عن الوطن»، 1971؛ و»يوميات الحزن العادي»، 1973؛ و»وداعاً أيتها الحرب، وداعـــــاً أيها الســـــلام»، 1974؛ و»في وصف حالتنا»، …1987)؛ وليس نــــثراً سردياً صريحاً (كما في «ذاكرة ليست للنسيان»، 1982)؛ ففـــــي الوسع اعتباره المجموعة الشعرية 24، إذا احتُســــبت «عصافير بلا أجنحة»، 1960، المجموعة الأولى التي تخلى عنها الراحل في ما بعد، ولم يعد يدرجها في مجلدات أعماله الشعرية الكاملة.
والحال أنّ هذه المجموعة (ترجمها إلى الإنكليزية الــــروائي العـــــراقي ســــنان أنطون، وصــــدرت ســـنة 2011 عن Archipelago؛ ومؤخــــراً فرغ فــــاروق مــردم بك والياس صنبر من ترجمتها إلى الفرنسية، وتصـــدر ربيــــع هذا العـــام عن Actes Sud)؛ تسعى إلى اســــتكشــاف ما يستبطنه النثر من شعريات رفيعـــة، بل هـــي تنجز صيغة فريدة وفذّة من امــــتزاج الشعر والنـــثر، في قول ينفكّ عنهما معاً، ويشكّل جنساً مستقلاً جبّار الإيحاء وعبقريّ التأثير.
وفي ثنايا الفصول العشرين، التي ينقسم إليها النصّ، يعثر القارئ على أمثلة عديدة تلخّص مفهوم درويش حول علاقة الشعر بالنثر، من زوايا مختلفة تخصّ المعنى والدلالة والمجاز والإيقاع.
«النثر جار الشعر ونزهة الشاعر»، و«الشاعر هو الحائر بين النثر والشعر»، و»تعرف أنّ المعنى في الشعر يتكون من حركة المعنى في إيقاع يتطلـــــع فيه النــــثر إلى رعوية الشعر، ويتطلع فيه الشعر إلى أرستقراطية النثر»، يكتب درويش.
كذلك يتعمد الراحل إقامة حوار مباشر بين الشعر (الوزن، في صيغة التفعيلة) والنثر؛ ليس في ختام معظم أقسام الكتاب، فحسب؛ بل أحياناً داخل الفقرة الواحدة، وحيث يُباغَت القارئ بتسلل مقطع موزون، أو حتى جملة عابرة؛ لا تقطع استرسال القراءة، بقدر ما تشدّ القارئ إلى منطقة مركّبة من اختلاط الاستقبال. على سبيل المثال، يكتب درويش: «فلصوت المطر على الزجاج هياج الرغبة. ليس أكثر من هذا ليبزغ الضوء من ليل الجسد. سريركَ سرّكَ/ ماضيك يأتي غدا/ على نجمة لا تصيب الندى/ بأذى. تلقي برأسك على ركبتيها لتستمتع إلى ما يقول الجسد الخالي من الحنين…».
وقد يقرّر، فضلاً عن هذا، تبديل التفاعيل على نحو يُحدث خلخلة مقصودة في العمارة الإيقاعية، ولعله يجسر المزيد من الهوّة الافتراضية بين الشعر والنثر؛ كما في هذا المثال الثاني: «ولا يبقى في ذهنك من أوصاف الجنّة غير التفاتتك الأخيرة، على الدرج الحجري، إلى نافذة نصف مفتوحة كنت ترى منها البحر والغروب وتغرب في العزلة: أنا والشمس صديقان حميمان/ ومحرومان في الليل من المشي على الشارع/ قد يعجبني المعنى/ ولا يعجبني/ لكنني أدمنت إيقاع الأغاني».
إلى هذا، تكتسب «في حضرة الغياب» أهمية كبيرة وخاصة، في الطور الأخير من تجربة درويش الشعرية، لاعتبار ثانٍ يتصل أيضاً بعلاقة الشعر بالنثر، ولكن من زاوية مختلفة: أنّ العمل يستكمل، في صيغة «نصّ» هذه المرّة، ما كان الشعر قد ابتدأه في مجموعة «لماذا تركتَ الحصان وحيداً»؛ أي تدوين محطات منتقاة من شذرات سيرة فريدة، تضمّ الشعريّ الفردي إلى الجَمْعي الكوني، أو كما يكتب درويش: «ألهذا كان ردّك الشخصي هو الدفاع الشعري عن الحبكة والذاكرة؟ فكتبتَ أصداء سيرة شخصية ـ جماعية، وتساءلت: لماذا تركت الحصان وحيداً؟ فماذا يستطيع الشاعر أن يفعل أمام جرّافة التاريخ غير أن يحرس شجر الطرقات القديمة ونبع الماء، المرئي منه وغير المرئي؟». وما لم يقله درويش في المجموعة الشعرية، سنة 1995؛ استكمله سنة 2006، في «نصّ» يرتدّ إلى طفولة «البروة»، مثلما يعود إلى زيارة عكا وحيفا وموسكو والقاهرة وبيروت ودمشق وتونس والرباط وباريس، وصولاً إلى غزّة وأريحا ورام الله…
ويبقى، أخيراً، أنّ التعديلات الكثيرة التي أجراها الراحل على مخطوط هذا العمل (الذي قُيّض لي الاطلاع عليه، واحتفظ بنسخة منه) برهان على أهميته العالية، ومدى القلق الذي تناهب درويش وهو يكتب، ويراجع، ويقلّب هذه الصياغة أو تلك، حتى بعد إرسال المخطوط إلى الناشر. أشير، في مثال أوّل، إلى أنّ الفصول كانت 19، قبل أن ينقل درويش الفصل IV إلى موقع الفصل XIX؛ ويضيف فصلاً عن تجربتَيه مع «النوم الأبيض»، أو الموت السريري الذي تعرّض له في فيينا 1984، وباريس 1998. ولقد حذف الراحل أكثر مما أضاف، وكنتُ ـ غنيّ عن القول! ـ أشفق على ما يستبعده (فقــــــرة كاملة تستعيد حـــيرام وسليمان الملك، مثلاً)؛ وأتفهم ما يعدّله («أتيتُ ولم أصل. جئتُ ولم أعد»، صارت: «أتيتُ، ولكنني لم أصل. وجئتُ، ولكنني لم أعدْ»)؛ وأطرب لما يضيفه (الخاتمة الشعرية، في ثلاثة فصول).
عمل متميز وفــــارق، إذاً، كانت غوايــــته جارفة عندي؛ في اســـتهلال قراءات 2016 الشــــعرية و… النــــثرية، أيضاً!
القدس العربي