صفحات سورية

محنة الشعب السوري


هاشم صالح

المجزرة الإجرامية النكراء التي ارتكبتها الميليشيات التابعة للنظام في قرية «القبير» بعد أسبوع فقط من مجزرة الحولة تشكل مؤشرا خطرا على منعطف الأحداث في سوريا. إنها دليل على إمكانية حصول التطهير الجغرافي الطائفي كما حصل في يوغسلافيا السابقة وأدى إلى تقسيم البلاد إلى عدة دول طبقا للانتماء الديني أو المذهبي. ينبغي العلم بأن الثورة السورية المندلعة منذ العام الماضي كانت عبارة عن انفجار البركان بعد طول احتقان. وهذا قانون إنساني وأكاد أقول فيزيائي: الضغط يولد الانفجار. هذا هو الوضع ملخصا بكلمات معدودات. وأنا لا أخترع الذرة إذ أقول ذلك وإنما «أثقب أبوابا مفتوحة»، كما يقول المثل الفرنسي.

ولكن سوف يكون من الخطأ التوقف عند هذا التشخيص الصحيح والناقص على حد سواء. لماذا؟ لأن المشكلة السورية أكبر من ذلك وأشد تعقيدا. إنها تضرب بجذورها في أعماق التاريخ القريب والبعيد. وربما أزعجت بعض القراء بما سأقوله الآن، ولكن بما أني أكره الخطاب الامتثالي المكرور فمن غير اللائق أن أقع فيه أنا أيضا؛ ولذلك فسوف أقول ما أعتقده حتى لو كان خطأ. «من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد».

وهكذا قررت بعد أن استخرت الله أن أرمي بنفسي في نار المعمعة وأقول الحقيقة أو ما أعتقد أنه الحقيقة. أعتقد شخصيا أن الفاجعة الحالية ليست ناتجة فقط عن استبداد الحكم الحالي وطابعه الدموي الرهيب، وإنما ناتجة أيضا عن تركيبة الدولة السورية ذاتها منذ البداية. إنها ناتجة عن «الخطيئة الأصلية» إذا ما استخدمنا المصطلح المسيحي الشهير بعد تحويره قليلا، فهي تركيبة اصطناعية في الواقع وليست حقيقية. لقد كانت عبارة عن مغامرة أو مقامرة غير مضمونة العواقب. وهنا يكمن الاستعصاء السوري بالضبط.

أحيانا أطرح على نفسي التساؤل الغبي والمتهور التالي: أما كان من الأفضل الإبقاء على سوريا مقسمة إلى عدة دول على أساس جغرافي مذهبي متجانس بدلا من توحيدها بشكل تعسفي وقبل أن تنضج مكونات السكان وتصبح مؤهلة لذلك؟ أقصد بهذا أن التنوير السوري كان ينبغي أن يسبق التوحيد السوري وليس العكس. أقصد بالتنوير السوري أو العربي القضاء على العصبيات الطائفية أو تحجيمها على الأقل عن طريق تنوير العقول وبث فكر جديد عن الدين.

ولكن قادة الاستقلال، رحمهم الله وجزاهم خيرا كل الجزاء، أرادوا توحيدها بكل نية طيبة غير عابئين برواسب الماضي. لقد اعتقدوا بإمكانية تجاوزها عن طريق التربية والبرامج التعليمية المعممة على كل أبناء سوريا، وكادوا أن ينجحوا في ذلك في الواقع، بل حققوا نجاحات لا يستهان بها، ولكن ثقل الموروث التاريخي كان أكبر منهم ومنا جميعا، فكان أن انهار السقف على رأس الجميع وعدنا إلى نقطة الصفر مجددا. وما انتعاش الحركات الجهادية العنيفة والعصبيات الطائفية المخيفة إلا أكبر مثال على ذلك.

لقد فشل التنوير العربي وليس فقط السوري. هذه حقيقة. وبالتالي فهذا الكلام ينطبق على دول عربية أخرى عديدة في الواقع، وليس فقط على سوريا. لنطرح الأمور بكل صراحة: لا ريب في أن السنة والعلويين يجتمعون على عدة قواسم مشتركة: كاللغة، والنبي، والكتاب، والأدب العربي بشعره ونثره منذ الجاهلية وحتى نزار قباني وبدوي الجبل.. ومع ذلك يبدون وكأنه يفصل بينهم سور الصين العظيم! يبدون وكأنه لا علاقة لبعضهم ببعض على الإطلاق. من أين جاءت كل هذه الهوة النفسية السحيقة؟ بصراحة لا أعرف. أو بالأحرى أعرف ولا أعرف. شرحه يطول.. إنهم يختلفون في التفاصيل اللاهوتية، ومعلوم أن الفتنة تكمن في التفاصيل! إنهم لا يزالون على أفضلية بعض الصحابة على البعض الآخر.. يا أخي كلهم أفضل (رضي الله عنهم جميعا). من يستطيع أن يزحزح الصخرة اللاهوتية من مكانها؟ من يستطيع أن يخرج من الحلقة المفرغة الضائعة؟ من يستطيع أن يفتح فمه ويدعو إلى تفسير آخر لتاريخ الإسلام غير التفسير السائد الذي لم يعد مناسبا في عصر الحداثة والفتوحات الفكرية لتاريخ الأديان المقارنة؟ من يستطيع أن يجدد التفسير الانغلاقي القروسطي القديم الذي أصبح عالة علينا، بل يسبب لنا مشكلة مع العالم أجمع؟ من يستطيع أن يخرج من انغلاقاته الطائفية أو المذهبية التي تشربها مع حليب الطفولة؟

ينبغي العلم بأن التفاصيل اللاهوتية وفتاوى التكفير المتبادلة على مر القرون الانحطاطية شيء يصعب تجاوزه في المدى المنظور. يلزمنا مائة فولتير عربي لتحقيق ذلك! من هنا عذاب سوريا وغير سوريا.. أقول ذلك وأنا أفكر بجماهير الشعب البسيطة وليس بالمثقفين بالطبع. ولكن حتى المثقفين هل تحرروا فعلا؟ هل قاموا بما فعله ديكارت أو نيتشه أو كل فلاسفة الحداثة: أي اشتغال الذات على ذاتها، أو مراجعة الذات لذاتها؟ في مراحل الجهل الظلامية تكون التفاصيل الثانوية أهم من الأشياء الأساسية والقواسم المشتركة. هذه حقيقة. بل نعمى عما هو مشترك ولا نعود نرى إلا الفتن «الصغيرة» والخلافات السطحية التي تفرق بيننا.

لماذا ظل الكاثوليك والبروتستانتيون يذبح بعضهم البعض على الهوية على الرغم من أنهم ينتمون إلى دين واحد وكتاب واحد ومؤسس واحد؟ لأن الشعوب الأوروبية كانت تعيش مرحلة القرون الوسطى ولم تستنر بعد. هذه هي حقيقة الأمور بكل بساطة. وبالتالي فلنعد إلى المدرسة الابتدائية من جديد أيها الأصدقاء. أقصد مدرسة التنوير العربي والأوروبي على حد سواء. ولننشئ جيلا جديدا نظيفا محررا من رواسب الماضي ومختلفا عن جيلنا الموبوء بالويلات والميكروبات!

باب المستقبل يظل مفتوحا، والعرب لم يقولوا كلمتهم الأخيرة بعد. ولكن لا نعرف ما إذا كان الطريق إليه يمر بالحروب الأهلية والمجازر الطائفية كما يقول هيغل أم لا؟ لا نعرف ما إذا كان الشعب السوري سيظل يدفع الثمن المر؟ وإلى متى؟ لا نعرف لماذا لا نستطيع أن نتعلم أو نتعظ قبل أن يذبح بعضنا بعضا وندفع الثمن عدا ونقدا؟ لا نعرف لماذا نظل نسير باتجاه الحفرة ونحن نعلم علم اليقين أننا سنقع فيها؟ بصراحة هذه أشياء تتجاوز عقلي وإمكانياتي!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى