صفحات الرأي

محنة الطبقات الوسطى العربيّة

حازم صاغية

غدا من بديهيّات علوم السياسة والاجتماع ربط مدى التقدّم السياسيّ والاجتماعيّ بمدى انتشار الطبقات الوسطى، في سائر شرائحها، وبالحريّات التي يمكن أن تتمتّع بها وتمارسها.

وإذا صحّ هذا المبدأ عموماً، فإنّه يصحّ خصوصاً بالنسبة إلى بناء الديمقراطيّة التي يصعب أن تنهض وتستقرّ من دون طبقات وسطى تستطيع أن تكون صوتَها وقاعدتها ومصدر دعمها الأوّل. لهذا، مثلاً لا حصراً، نرى أنّ كلّ حديث عن الديمقراطيّة في بلد كالهند لا يلبث أن ينقلب حديثاً عن الطبقات الوسطى التي لا تزال قليلة العدد قياساً بسكّان الهند، إلاّ أنّها تنمو بوتيرة ملحوظة كما تستجمع مصادر قوّة ونفوذ يتراكمان سنة بعد أخرى. فإذا كانت التركة الإداريّة للاستعمار البريطانيّ سبب التفاؤل الأوّل بمستقبل الديمقراطيّة هناك، كان دور الطبقات الوسطى سبب التفاؤل الثاني.

لكنّ العالم العربيّ، وفي هذه المرحلة الانتقاليّة الصعبة التي يمرّ فيها، يشهد تراجعاً ملحوظاً، متعدّد الأثر، لا في نفوذ الطبقات الوسطى فحسب، بل أيضاً في وزنها العدديّ وحضورها.

ذاك أنّ الأخبار في تزايد يوميّ عن تعرّض شرائح هذه الطبقات، في بلدان عربيّة كثيرة، للهجرة إلى بلدان الخارج، واختيارها أوطاناً أخرى غير الأوطان الأصليّة التي صدرت عنها وتشكّلت فيها وحلمت بتغييرها.

والحال أنّ الطبقات الوسطى العربيّة سبق أن عانت الأمرّين مع الانقلابات العسكريّة التي بدأت مطالع الخمسينات في مصر وازدهرت في العراق وسوريّا في الستينات.

صحيح أنّ الضبّاط الانقلابيّين انتموا إلى هذه الشريحة أو تلك من الطبقات الوسطى، واعتمدوا بضع سياسات أفادتها بالمعنى الاقتصاديّ والإجرائيّ كما وسّعت أعدادها، لا سيّما شرائحها الأدنى. إلاّ أنّ ذلك يبقى ثانويّ الأثر بالقياس إلى مصادرة الحرّيّة التي هي أوكسجين الطبقات الوسطى وشرطها الشارط للإقدام على مبادرات جريئة، فرديّة كانت أم جماعيّة. وإلى ذلك، فمع تراجع التعليم ومؤسّساته ومع هجرة الاستثمارات وعديد الكوادر الحديثة، تمّ تصحير البيئة التي تزدهر فيها الطبقات الوسطى ولا تزدهر إلاّ فيها.

ولقائل أن يقول إنّ شبّان الطبقات الوسطى المدينيّة، لا سيّما في تونس ومصر، هي التي أطلقت ثورات “الربيع العربيّ” وفتحت الأبواب للحرّيّة التي يتطلّبها الشعب كلّه، وخصوصاً منه الطبقات الوسطى. وهذا صحيح، إلاّ أنّ صحّته لا تلغي الإحباط اللاحق الذي تعدّدت أسبابه ومصادره:

– ذاك أنّ المرحلة الانتقاليّة من الاستبداد إلى الحرّيّة، ومن ثمّ إلى الديمقراطيّة، على ما هو مأمول، طالت نسبيّاً، كما تبدّت مصاعبها الكبيرة من دون أن يتبدّد غموضها والغموض الذي يحفّ باحتمالاتها ومساراتها. وهذا كلّه مكلف على الأصعدة جميعاً.

– كذلك لم يكن خبراً نافعاً اكتشاف مدى النفوذ والقوّة اللذين تحظى بهما تيّارات الإسلام السياسيّ التي تحمل تصوّرات للمستقبل لا تطمئن الطبقات الوسطى كثيراً، ولا توفّر لها شروط الاشتغال والنماء. وفي هذا المعنى جاءت تطوّرات السنتين الماضيتين في مصر وتونس لتدلّ إلى هذه المخاوف، وإلى أنّ ما بدأ “ثورةً للطبقات الوسطى” لم يعد كذلك.

– ومن ناحيتها فإنّ احتمالات العودة إلى حكم العسكر، أكانت العودة مباشرة أم مداورة، لم تعد مستبعدة كلّيّاً. وربّما اتّخذت عودة كهذه شكلاً يجمع بين استجابة الطلب الشعبيّ للخلاص وبين الاعتذاريّة عن الثورات بسبب العجز عن تحمّل أكلافها الباهظة. وكائناً ما كان الأمر، فإنّ تحوّلاً كهذا لن يكون، على المدى الأبعد، في مصالح الطبقات الوسطى.

– أمّا في بلد كسوريّا، فمن الواضح أنّ العنف المجنون لا يترك أيّ مكان للحياة المدنيّة التي كانت وقود ضحيّة الحكم العسكريّ الاستبداديّ، فصارت ضحيّة الحرب الأهليّة المقترنة بأزمة إقليميّة ودوليّة.

– وفي غير بلد عربيّ تتجمّع نذر النزاعات الطائفيّة والمذهبيّة والإثنيّة التي لا تتعارض تعريفاً مع المدى الوطنيّ لدور الطبقات الوسطى، فضلاً عن تهديدها وتهديد سائر السكّان في وجودهم الفيزيائيّ نفسه.

– وفي هذه الغضون، يتردّى الأمن كما يتراجع الأداء الاقتصاديّ فيما يتدهور التعليم. وهذه المجالات الثلاثة تشكّل، كما هو معروف، قدس أقداس الطبقات الوسطى.

وقد يجوز القول، بلغة أخرى، إنّ مصائر المشروع الثوريّ الذي انطلق في 2011 هي التي ستقرّر الوجهة العامّة: فإذا تعثّر المشروع كثيراً، أو انتكس، استمرّ النزف المدمّر لمجتمعاتنا العربيّة، وإذا نجح تجديد الإقلاع وتقصير مراحل الانتقال وتقليل أكلافها، أمكن أن يُضرب موعد جديد مع المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى