مختارات لـ نيكانور بارّا
نيكانور بارّا (١٩١٤ ):
يعتبر “نيكانور بارّا ” من أكبر شعراء جمهورية شيلي في العصر الحديث، وهو يقف في مصافّ كبار الكتّاب والمبدعين في هذا البلد الأمريكي اللاتيني شأن مواطنته الشاعرة البارزة “غابرييلا ميسترال” (التي كانت أوّل امرأة والوحيدة حتى الآن التي تفوز بجائزة نوبل في الآداب العالمية في أمريكا اللاتينية عام 1945)، و”بابلو نيرودا”، و”بيثينتي ويدوبرو”، و”غونثالو روخاس”، و”إيسابيل أييّندي”، و”خورخي إدواردز” وسواهم. لقد أسهم الشّاعر “بارّا ” بقسط وافر في إثراء وإغناء اللغة الشّعرية في إسبانيا وفى مختلف بلدان أمريكا اللاتينية، كما أنه يتمتّع بروح مرحة، وسخرية لاذعة، ونظرة نقدية ثاقبة للمجتمع والحياة.
نيكانور بارّا.. كأنما لا شيء يحدث في تشيلي/ أحمد ندا
“كل ما يُقال شعر/ كل ما يُكتب نثر”، هكذا يعرّف الشاعر التشيلي نيكانور بارّا الشعر، في المختارات الصادرة عن سلسلة “آفاق عالمية” من “الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية”، بعنوان “كأنما لا شيء يحدث في تشيلي”، وترجمة أحمد حسان. يؤسس بارّا فلسفته ورؤيته للشعر عبر قصائد قلقة وغير مكتملة عن عمد، لاذعة وتنبؤية.
قصائد تدين لها الشعرية الإسبانية لما تشيعه من حرية إبداعية ووعي متجدد بأن كل شيء يمكن أن يقال شعراً. فقد أخذ هذا الشاعر على عاتقه منذ الخمسينيات، وتحديدًا حين صدر ديوانه الأول والأهم “قصائد وقصائد مضادة” (1954)، مهمة أن يصوغ، في ظل الألم والدعابة السوداء، قصيدة حافلة بالتجريب:
“أقول الأشياء كما هي
إما أننا نعرف كل شيء سلفاً
وإما أننا لن نعرف أبداً أي شيء على الإطلاق.
الشيء الوحيد المسموح لنا به
هو تعلم التحدث بطريقة صحيحة”.
ولد نيكانور بارّا في 1914، وفي أيلول/ سبتمبر القادم يكملُ قرناً من الزمن. ومع ذلك، لا يزال قادراً على أن يخوض الحياة لكن في عزلة من جرّب الكثير وآن له أن يستريح. أستاذ الفيزياء المتمرّد، لم يفز بجائزة “خوان رولفو” إلا عام 1991، وفاز بجائزة سيرفانتس عام 2012، بعد أن تجاوز السابعة والتسعين من عمره، رغم ذلك يعتبره الناقد هارولد بلوم “أهم شاعر عرفته الأرض الجديدة إلى جانب والت ويتمان”.
“أنا لست يمينياً ولا يسارياً
أنا ببساطة أكسر القوالب”.
ما يميز “القصائد المضادة” هو التهكم والمفارقة الممزوجة باللامبالاة اللاذعة، من دون أن تغفل تفاصيل الواقع السوداوية. لكن هذه الواقعية تحمل في طياتها روافد وتأثيرات السوريالية الفرنسية، بعد تجريدها من مذهبيتها الجامدة. سوريالية نقّحتها الدعابة واللغة الدارجة العفوية لمواطني التشيلي. كل هذه العناصر تمتزج في “الشعر المضاد” من خلال الشخصية الفريدة غير المكتملة والواقعية لنيكانور بارّا.
“ما هو الشاعر المضاد:
تاجر جرار وتوابيت؟
كاهن لا يؤمن بشيء؟
جنرال يشك في نفسه؟
صعلوك يسخر من كل شيء
حتى من الشيخوخة والموت؟”.
الشعر المضاد شعرٌ تمرّد على الأنواع والأشكال، من خلال طرح الموضوعات السابقة وإعادة تحطيمها، ومحو الحدود بين الأنواع الأدبية. إن الشعر- بل الأدب- المضاد بالنسبة لبارا، دفاع ضد تزييف الفن، ومحاولة لجعله سبباً للعيش والبقاء. وقد وصف بارا القصيدة المضادة بأنها “في النهاية، ليست سوى القصيدة التقليدية وقد أثْرتها السوريالية”، ويضيف: “يجب أن تحلّ انطلاقاً من وجهة النظر النفسية والاجتماعية للبلد والقارة التي ننتمي إليها، لكي يمكن اعتبارها بمثابة مثل أعلى شعري حقيقي”.
تخبرنا قصيدة بارا بأنه وضع السوريالية في البيئة اللاتينية، من خلال ربطها بلغة يومية وتجربة واقعية، وتضخيم الصوت الشعري المفرد وتحويله إلى مسرح حافل بالأصوات:
“ما هو الشعر المضاد:
زوبعة في فنجان شاي؟
بقعة جليد فوق صخرة؟
حوض غسيل مليء بالفضلات الآدمية”.
عرف تاريخ الشعر على الدوام قصائد مضادة كالتي كثّ بارّا بتجربته، بل إن مجمل الحياة الداخلية للشعر هي سجل لتلك التعارضات المتتابعة. فكل اتجاه شعري جديد ينشأ كردّ فعل ضد الرتابة والروتين اللفظي وتنميط المشاعر والقوالب الجاهزة التي تسود حقبة معينة.
المختارات التي يقدمها حسان، تغطي كل تجربة الشاعر، بمختلف تحولاتها وانتقالاتها، إذ أنها اختيرت من: “قصائد وقصائد مضادة” 1954، “رقصة الكويكا الطويلة” 1957، “أشعار الصالون” 1962، “أغنيات روسية” 1967، “قميص المجانين” 1969، “أعمال فنية” 1973، “خطب ومواعظ مسيح إلكي” 1977، “خطب ومواعظ مسيح إلكي الجديدة” 1979، “نكات بارا لتضليل الشرطة” 1983، “أوراق بارا” 1985، “قصائد غير منشورة” 1988.
العربي الجديد
قصائد مختارة للشاعرالتشيلي نيكانور بارّا
إلى اللقاء
ترجمة: أحمد حسان
حانت ساعةُ الانسحاب
أنا مُمتنٌ للجميع
للأصدقاء المُبهجين
مثلما للأعداء المسعورين
الشخصياتِ المقدسةِ التي لا تُنسى!
ما أتعسني
لو لم أكن قد نجحتُ في كسب
النفور العام تقريبًا:
مرحى للكلاب الهانئة
التي خرجت لتنبح فيَّ على الطريق!
أودِّع حضراتكم
بكل بهجة العالم.
شكرًا من جديد، شكرًا
أعترف بأن دموعي تنهمر
سنلتقي من جديد
في البحر، على الأرض، أينما كان.
أحسِنوا التصرف، اكتبوا
واصلوا عمل الخُبز
استمروا في نسج الأحابيل
أتمنى لكم كل أنواع الأمنيات:
بين ذُرى هذه الأشجار التي نسمِّيها السرو
أنتظركم مُكشِّرًا عن أنيابي.
من ديوان كأنما لا شيء يحدث في تشيلي (أبيات بارا لتضليل الشعر) – قصائد مضادة
ترجمة أحمد حسان
الهيئة العامة لقصور الثقافة -مصر-
************************
شُرْب النخب الأخير
ترجمة: نزار سرطاوي
سواء أعجَبَنا ذلك أم لم يعجبنا،
فليس أمامنا سوى خياراتٍ ثلاث:
الأمس واليوم وغداً.
وهي ليست حتى ثلاثة
لأنه كما يقول الفيلسوف
فالأمس أمس
ونحن لا نمتلكه إلّا في الذاكرة:
فمن الوردة التي تمّ اقتطافها
لا يمكن الحصول على المزيد من البتلات.
البطاقات التي يمكن اللعب بها
اثنتان فقط:
الحاضر والمستقبل.
وليس هناك حتى اثنتين
لأنّ هناك حقيقة معروفة
هي أن ّالحاضر لا وجود له
إلا حين يمرّ متقدمّاً شيئاً فشيئاً
ويُستَهْلَك
مثل سِنّ الشباب.
في النهاية
لا يبقى لدينا سوى الغد.
أرفع الكأس
نخب اليوم الذي لا يصل أبداً.
ولكن هذا هو كل شيء
تحت تصرّفنا.
القصيدة مأخوذة عن مجلة قصيدة النثر الإلكترونية
************************
انبعاث
ترجمة: محمد الخطابي
ذات مرّة، في حديقة من حدائق نيويورك
أقبلت نحوي حمامة
لتموت تحت قدمي
احتضرت بضع ثوان، ثمّ ماتت
إلاّ أنّ الذي حيّرني
وهو أمر لا يصدّق
أنّها عادت للانبعاث فورا
دون أن تمنحني وقتا للقيام بأيّ شيء
ثمّ انطلقت طائرة
كما لو أنّها لم تمت قطّ
من بعيد رنّت، أجراس نواقيس
ومكثت أنا، أحدّق النظر فيها مشدوها
وهي تحلّق في اتجاهات متعرّجة
بين مجسّمات المرمر
والبنايات الشامخات
مرّت بخلدي أشياء كثيرة
كان يوما من أيّام الخريف
ولكنّه بدا لي يوما ربيعيا رائعا
القصيدة مأخوذة عن موقع ثقافات
قصائد للشاعر التشيلي نيكانور بارا ترجمة أحمد حسان
منظر
أترون تلك الساق الآدمية التي تتدلي
من القمر
كشجرة تنمو إلي أسفل
تلك الساق المخيفة التي تطفو في الفراغ
لا يكاد يضيؤها شعاع
القمر ونسيم النسيان!
***
رسائل إلي مجهولة
حين تمضي السنين، حين تمضي
السنين ويكون الهواء قد حفر حفرةً
بين روحكِ وروحي، حين تمضي السنين
وأكون مجرد رجل أحب، كائن تمهل
لحظة أمام شفتيك،
رجل بائس أرهقه التجوال في الحدائق،
أين ستكونين أنت؟ أين
ستكونين، يا ابنة قبلاتي!
***
شاهد قبر
متوسط القامة،
بصوت لا هو رفيع ولا ممتلئ
إبنا أكبر لمدرس ابتدائي
وخياطة منزلية،
نحيلاً منذ مولدي
رغم شغفي بالطعام الجيد،
بخدين غائرين
وأذنين مفلطحتين قليلاً،
بسحنة مربعة
تنفتح فيهما العينان بالكاد
وأنف ملاكم خلاسي
تنحدر إلي فم معبود أزتيكي
ـ كل هذا غارق
في ضوء بين التهكمي والغادر ـ
لا أنا بالغ الذكاء ولا أحمق مأفون
كنت ما كنته: مزيجاً
من خل وزيت طعام
عجينة من ملاك ووحش!
……………….
(*) قصائد مضادة، للشاعر نيكانور بارا، ترجمة أحمد حسان، مختارات الكتابة الأخري، ط 2 ، 2001.
قصائد مضادة نيكانور بارا ترجمة احمد حسان
الشعر المضاد ليس سوي شعر . لكن شعر تمرد ضد أكذوبة مقبولة وموقرة اجتماعيا ز لذا فانه يبدأ بأن يطرح للتساؤل مواضعات الشعر السابق عليه ويحاول تحطيمها من خلال صنعته . يبدأ بهدم الأشكال ومحو الحدود بين الأنواع الأدبية ومنح اللغة قيمتها الحقيقية والاستجابة لشحنة العبث التي تمثل تراثنا وفي هذا السياق تصبح أمور الهرطقة مثلها مثل الأمور الوقحة والمهينة وحني الفاحشة وسائل توضيح للإنسان المرآة التي تنعكس عليها صورته , ان الشعر-بل والأدب – المضاد في القرن العشرين هو إذا دفاع ضد تزييف الفن ومحاولة جعل الفن سببا للعيش والبقاء وحل عبث الوضع الإنساني بقبولة حتى الثمالة , وبذلك فانه يمثل الخط الأكثر تقدما وتمردا سواء في الجانب الجمالي أو في الجانب الايديو لوجي وقد وصف بارا نفسه القصيدة المضادة بأنها “في النهاية ليست سوي القصيدة التقليدية وقد أثراها النسغ السريالي – سريالية كريولية أو ما شئت أن تسميها ” ولكنه يسارع قائلا أنها “يجب أن تحل انطلاقا من وجهة النظر النفسية والاجتماعية للبلد والقارة التي ينتمي إليها لكي يمكن اعتبارها بمثابة مثل أعلي شعري ” الأمر إذا هو إعادة غرس السريالية في الواقع من خلال حل محلي مرتبط بلغة يومية وبتجربة واقعية عينية تتطلبان تحلل الصوت الشعري إلي مائة شخصية سوقية في مواجهة ضمير المتكلم المفرد لدي الشعراء الآخرين
مختارات
إنه النسيان
أقسم أنني لا أذكر حتى اسمها ,
بل سأموت وأنا أدعوها ماريا ,
ليس لمجرد نزوة شاعر
بل مظهرها , مظهر الميدان الريفي ,
يا لتلك الأوقات ! أنا خيال مآته ,
وهي صبية شاحبة وكئيبة .
عند عودتي من المدرسة ذات مساء
علمت بموتها الذي لا تستحقه ,
وهو نبأ سبب لي خيبة أمل
حتى أنني ذرفت دمعة عند سماعه.
نعم , دمعة من سيصدق !
وأنا الشخص الممتليء حيوية .
إذا كان لي أن اسلم بما قاله ..
من حملوا الخبر
فلابد أن أعتقد , دون أدني تردد
أنها ماتت وأسمي في حدقتيها ,
الأمر الذي يدهشني , لأنها لم تكن
أبدا بالنسبة لي سوي صديقة.
لم يكن لي معها أبدا أكثر
من علاقات مجاملة صارمة
لا أكثر من كلمات وكلمات
وذكر البلابل مرة أو اثنتين.
عرفتها في قريتي ( من قريتي
لم تتبق سوي حفنة من رماد )
لكنني لم أر لها أبدا مصيرا
سوي مصير صبية حزينة ومتألمة .
إلي هذا الحد كان الأمر
حتى أنني أخذت أخاطبها
باسم ماريا السماوي ,
وهو أمر يثبت بوضوح
الدقة المحورية لمذهبي .
ربما أكون قبلتها ذات مرة ,
منذا الذي لا يقبل صديقاته !
لكن لا حظوا أنني فعلت ذلك
دون أن أنتبه تماما لما أفعل .
لن أنكر , حقا كانت تروقني
صحبتها الأثيرية والكسولة
التي كانت كالروح الهادئة
التي تسري في الزهور المنزلية
لا يمكنني أن أخفي بأية حال
الأهمية التي كانت لابتسامتها
ولا أنفي التأثير الأثير
الذي كانت تمارسه حتى علي الأحجار.
لنضف , كذالك أن عينيها
كانتا المصدر الموثوق لليل .
كذلك من الضروري ,رغم كل شيء .
أن تفهموا أنني لم أكن أحبها
إلا بتلك العاطفة الغامضة .
التي نخص بها قريبا مريضا
ورغم هذا يحدث , رغم هذا ,
ذلك الذي مازال يدهشني حتى اليوم ,
ذلك المثال الفريد وغير المسبوق
في أن تموت واسمي في حدقتيها ,
هي الوردة المتعددة العفيفة ,
هي التي كانت قنديلا أصيلا
أنهم علي حق , علي حق تماما أولئك الناس
الذين يقضون حياتهم شاكين ليل نهار
من أن العالم الغادر الذي نحياه
لا يساوي عجلة متوقفة:
القبر أشرف بكثير ,
وورقة شجر متعفنة تفوقه قيمة
لاشيء حقيقي هنا لاشيء يدوم ,
ولا حتى لون الزجاج الذي ننظر من خلاله .
اليوم يوم ربيعي أزرق
أظني سأموت شعرا ,
من تلك الفتاة الحزينة الشهيرة
لا أذكر حتى الاسم
لا أعرف سوي لأنها عبرت بهذا العالم
كحمامة هاربة :
نسيتها دون رغبة ببطء.ككل أشياء الحياة .
صورة ذاتية
أنظروا أيها الفتيان
معطف الراهب المتسول هذا :
أنا معلم في مدرسة مظلمة ,
أضعت صوتي وأنا ألقي الدروس
( بعد كل شيء أو لاشيء
أعمل أربعين ساعة أسبوعيا)
ماذا تقول لكم سحنتي الملطومة؟
أحقا يبعث النظر إلي الأسي!
وماذا يوحي إليكم حذا القس هذا
الذي شاخ من غير احم ولا دستور .
أما عن العينين , فعلي بعد ثلاث أمتار
لا أتعرف حتى علي أمي ذاتها
ماذا جري لي ؟ -أبدا !
لقد دمرتهما وأنا القي الدروس :
الضوء السيئ والشمس
والقمر السام البائس .
هذا كله لماذا ؟
لكب خبز لا يغتفر
جامد كسحنة البرجوازي
وله رائحة وطعم الدم .
لماذا ولدنا بشرا
إذا كانوا يعطوننا ميتة حيوانات !
من فرط العمل , أحيانا
ـري أشكالا غريبة في الهواء
أسمع مخططات مجنونة
ضحكات مناقشات إجرامية .
لاحظوا هاتين اليدين
وخدي الجثة الأبيضين هذين ,
وهذه الشعرات المتناثرة التي بقيت لي .
هذه التجاعيد السوداء الجهنمية !
ورغم ذلك فقد كنت مثلكم
شابا ممتلئا بالمثل الجميلة ,
حلمت أنني أسبك النحاس
وأصقل أوجه الماس :
وهاأنذا اليوم
خلف هذا الخان غير المريح
وقد بلد حسي أزيز
الخمسين ساعة أسبوعيا
شرور العالم الحديث
المجرمون الحديثون
مرخص لهم بالتردد يوميا علي الحدائق
والمتنزهات .
مزودين بتلسكوبات قوية وساعات جيب
ينهبون الأكشاك التي يؤثرها الموت
ويقيمون مختبراتهم بين الخمائل المزهرة .
من هناك يسيطرون علي المصورين
والشحاذين الذين يتجولون علي مقربة
محاولين إقامة معبد صغير للبؤس
ويبلغون إذا سنحت الفرصة حد التغلب
علي ماسح أحذية سوداوي
تهرب الشرطة المرعوبة من هؤلاء الوحوش
باتجاه وسط المدينة
حيث تندلع حرائق أخر العام الكبيرة
وحيث يجبر شجاع ملثم اثنتين من سيدات
الأعمال الخيرية
علي رفع أيديهم فوق رأسيهما
شرور العالم الحديث :
السيارة والسينما الناطقة
أشكال التمييز العنصري ,
أباده ذوى الجلد الأحمر
ألعيب كبار المصرفيين
كارثة المسنين
التجارة السرية في البيضاوات
التي يديرها لوطيين دوليون
امتداح ألذات والنهم ,
الطقوس الجنائزية ,
الأصدقاء الشخصي يون لصاحب الفخامة ,
التسامي بالفلكلور إلي مرتبة الروح ,
إساءة استخدام المخدرات والفلسفة
ترهل من يؤثرهم الحظ
الاستثارة الذاتية والقسوة الجنسية
التسامي بما هو حلمي وبالوعي الباطن
علي حساب الحس المشترك,
الثقة المبالغ فيها في الأمصال واللقاحات
تأليه القضيب
سياسة السيقان المفتوحة الدولية
برعاية الصحافة الرجعية ,
الشغف بلا حدود بالسلطة والبذخ,
تجارة الذهب
الرقصة المشؤمة للدولارات
المضاربة والإجهاض ,
تدمير المعبودين,
التقدم المفرط في علم التغذية والسيكلوجيا
التربوية
رزيلة الرقص , والسيجارة وألعاب القمار ,
نقاط الدم التي نجدها عادة ما نجدها بين ملاءات
المتزوجين حديثا
جنون البحر
الخوف من الأماكن المفتوحة ومن الأماكن المغلقة
تفتيت الذرة
الدعابة الدامية لنظرية النسبية ,
هذيان العودة إلي رحم الأم ,
عبادة ألغرائبي
حوادث الطيران,
المحارق , والتطهيرات الجماعية ,
واحتجاز جوازات السفر
كل هذا لأنه يروقنا لأنه يحدث الدوار
تفسير الأحلام
وانتشار جنون الراديو
كما أتضح يتكون العالم الحديث
من زهور صناعية
تزرع في أجراس زجاجية تشبه الموت
يشكله نجوم السينما
وملاكمون دامون يتصارعون علي ضوء القمر
يتكون من رجال – قبرات يتحكمون في الحياة
الاقتصادية للبلدان
من خلال بضع آليات يسهل شرحها
وعادة ما يتشحون بالسواد مثل رسول الخريف
ويتغذون علي جذور وأعشاب برية
بينما الحكماء وقد أكلتهم الجرذان
يتعفنون في أقبية الكاتدرائيات
وتطارد الشرطة الأرواح النبيلة بلا هوادة
العالم الحديث بلوعة ضخمة :
المطاعم الفاخرة غاصة بالجثث الهاضمة
وبطيور تطير علي ارتفاع منخفض
بصورة خطيرة
وليس هذا كل شيء فالمستشفيات
مليئة بالأفاقين
ناهيك عن ورثة الروح الذين يقيمون
مستوطناتهم في إست من أجريت لهم
عمليات مؤخرا
أحيانا ما يعاني الصناعيون الحديثيون
من تأثير الجو المسمم
فعادة ما يسقطون بجوار ألآت الخياطة
صرعى مرض الحلم المخيف
الذي يحولهم علي ألمدي البعيد
إلي أنواع من الملائكة
ينكرون وجود العالم المادي
ويتفاخرون بأنهم أبناء بائسون للقبر
إلا أن العالم كان دائما هكذا
الحقيقة كالجمال لا تفني ولا تستحدث من عدم
والشعر يكمن في الأشياء وألا فانه
مجرد سراب للروح
أعترف بأنه زلزالا مفهوما تماما
يمكنه القضاء في ثوان معدودة علي مدينة
غنية بالتقاليد
وأن قصفا جويا دقيقا
يسقط الأشجار والخيول والعروش والموسيقي
ولكن ما أهمية هذا كله
إذا كانت أعظم راقصات العالم
تموت فقيرة ومنبوذة في قرية صغيرة
بجنوب فرنسا
بينما الربيع يعيد إلي الإنسان
جزءا من الأزهار المختفية
أنصح بأن نحاول أن نكون سعداء بمصمصة
الضلع الإنساني البأس
فلنستخلص منه السائل المجدد للنشاط
كل واحد حسب ميوله الشخصية
لنتشبث بهذه المزقة المقدسة
ولاهثين ومرعبين
لنمتص هذه الشفاه التي تصيبني بالجنون
لقد تقرر المصير
لنستنشق هذا العطر المثير والمدمر
ولنعش يوما أخر حياة المختارين :
من ابطية يستخلص الرجل الشمع
الضروري ليصوغ وجه معبوديه
ومن فرج المرأة القش والطين لمعابده
لكل هذا
أربي قملة في رباط عنقي
وأبتسم للحمقى الذين يهبطون من الأشجار
عشر قصائد/ نيكانور بارا
ترجمة نزار سرطاوي
القصيدة الأولى
الشعراء الشباب
اكتبوا كما تريدون
بأي أسلوب تحبّون
دماء غزيرة سالت تحت الجسر
ليستمر الاعتقاد
أنه لا توجد إلّا طريقٌ واحدةٌ هي الصحيحة.
في الشعر كل شيء مباح.
بشرط واحدٍ فقط بطبيعة الحال،
عليكم أن تجعلوا الصفحة البيصاء أفضل حالاً.
—————————————-
القصيدة الثانية
أتراجع عن كل ما قلت
قبل أن أذهب
من حقّي أن أحقّق رغبة أخيرة:
أيها القارئ الكريم
إحرق هذا الكتاب
فهو ليس ما أردت أن أقوله أبداً
مع أنه كُتِبَ بالدم
فهو ليس ما أردت أن أقوله.
لا يمكن أن تكون هناك حال أكثر مدعاةً للأسى من حالي
لقد تحققت هزيمتي على يد ظلّي:
كلماتي انتقمت مني.
سامحني أيها القارئ، أيها القارئ الطيب
إن لم أستطع أن أودّعك
بعناق حار، فإنني أودّعك
بابتسامة حزينة مُتَكَلّفة.
ربما كان هذا هو أنا بأجْمَعي
لكن اسْتمعْ إلى كلمتي الأخيرة:
أنا أتراجع عن كل ما قلت.
بأكبر قدْرٍ من المرارة في العالم
أتراجع عن كل ما قلت.
—————————————-
القصيدة الثالثة
أزمنة حديثة
إنها لَأوقاتٌ مأساوية هذه التي نعيشها
ليس في مقدورك أن تتحدّثَ دون أن تقع في تناقض
أو أن تحافظَ على الهدوء دون أن تتورط مع البنتاغون.
الكلّ يعلم أنْ ليس هناك أي بديلٍ ممكن
كل الطرق تؤدي الى كوبا
لكنّ الهواءَ ملوّث
التنفّسُ عمليةٌ فاشلة.
العدو يقول
إن اللوم يقعُ على البلد
كما لو كانت البلدان رجالاً.
سُحُبٌ لعينةٌ تُحَوّم فوق براكينَ لعينة
سفنٌ لعينةٌ تقوم بحملات لعينة
أشجار لعينة تمزّق طيوراً لعينة:
لقد كان كل شيء ملوّثاً منذ البداية.
—————————————-
القصيدة الرابعة
الأفعوانيّة
على مدى نصف قرن
كان الشعرُ
جَنّةَ أشد الناس حمقاً.
حتى أتيتُ
وبنيتُ أفعوانيّتي.
اصعد أن أحببت.
طبعاً أنا لستُ مسؤولاٍ إن أنت نزلت
وفمك وأنفك ينزفان دماً.
—————————————-
القصيدة الخامسة
التضخّم
الخبز يرتفع لذا فإنّ الخبز يرتفع ثانيةً
الايجارات ترتفع
هذا يؤدي إلى مضاعفة فورية لكافة الإيجارات
كلفة الملابس ترتفع
لذا فإن كلفة الملابس ترتفع ثانيةً.
لا محالة
نحن ندور في حلقة مفرغة.
في القفص هناك طعام.
ليس الكثير، ولكن هناك الغذاء.
وفي الخارج فقط تمتد مساحات هائلة من الحرية.
—————————————-
القصيدة السادسة
الحاجّ
أعيروني انتباهكم، أيها السيدات والسادة، أعيروني انتباهكم للحظة:
أديروا رؤوسكم للحظة واحدة نحو هذا الجزء من الجمهورية.
لليلةٍ واحدة انسوا شؤونكم الشخصية،
دعوا اللذة والألم ينتظران عند الباب:
اسمعوا الصوت القادم من هذا الجزء من الجمهورية.
أعيروني انتباهكم، أيها السيدات والسادة، أعيروني انتباهكم للحظة!
الروح التي كانت حبيسةً منذ سنوات
في ما يشبه هُوّةً جنسيةً وفكرية،
يمر إليها القليل القليل من الغذاء من خلال الأنف،
تتوق إلى أن تسْمَعوها.
أود أن أفهم بضعةَ أشياء،
أحتاج الى ضوء ضئيل، الحديقة تعج بالذباب،
عقلي في حالةٍ يُرثى لها،
فأنا أحلّ المشاكل بطريقتي الخاصة،
وبينما أتفوّه بهذه الكلمات أرى دراجةً مركونةً إلى جدار،
أرى جسراً
وسيّارة تختفي بين المباني.
شعرك مُسَرّح، هذا صحيح، وتمشي في الحدائق العامة،
لديك تحت جلدك جلدٌ آخر،
لديك حاسّةٌ سابعة
تتيح لك الدخول والخروج تلقائيا.
لكنني أنا طفل ينادي أمه من وراء الصخور،
أنا حاجٌّ يقذف بالحجارة إلى ارتفاع أنفه،
شجرةً تصرخ لتكتسي بالأوراق.
—————————————-
القصيدة السابعة
الوضع يزداد حساسّيةً
ما عليك إلّا أن تنظر إلى الشمس
من خلال الزجاج المغطى بالدخان
لتعرف أنّ الأمور سيّئة:
أم لعلّك تظنّ أن كل شيء على ما يرام.
أنا أقول إنّه ينبغي علينا أن نعود
إلى سياراتٍ تجرها الخيول
إلى طائراتٍ تعمل بالبخار
إلى أجهزةِ تلفاز مقطوعةٍ من الحجر
كان كبار السنّ على حق:
علينا أن نعود إلى استعمال الخشب في الطهو ثانيةً.
—————————————-
القصيدة الثامنة
زمنيّات
في مدينة سانتياغو، شيلي
أيام طويلة لا تنتهي:
أزليّاتٌ عديدة في يوم واحد.
مثل باعة الأعشاب البحرية
الذين يسافرون على ظهور البغال:
تتثاءب – تتثاءب ثانيةً.
غير أن الأسابيع قصيرة
الأشهر تمرّ سراعاً
والسنين لها أجنحة.
—————————————-
القصيدة التاسعة
شُرْب النخب الأخير
سواء أعجَبَنا ذلك أم لم يعجبنا،
فليس أمامنا سوى خياراتٍ ثلاث:
الأمس واليوم وغداً.
وهي ليست حتى ثلاثة
لأنه كما يقول الفيلسوف
فالأمس أمس
ونحن لا نمتلكه إلّا في الذاكرة:
فمن الوردة التي تمّ اقتطافها
لا يمكن الحصول على المزيد من البتلات.
البطاقات التي يمكن اللعب بها
اثنتان فقط:
الحاضر والمستقبل.
وليس هناك حتى اثنتين
لأنّ هناك حقيقة معروفة
هي أن ّالحاضر لا وجود له
إلا حين يمرّ متقدمّاً شيئاً فشيئاً
ويُستَهْلَك
مثل سِنّ الشباب.
في النهاية
لا يبقى لدينا سوى الغد.
أرفع الكأس
نخب اليوم الذي لا يصل أبداً.
ولكن هذا هو كل شيء
تحت تصرّفنا.
—————————————-
القصيدة العاشرة
تحذيرات
الصلاة غير مسموحة، العطاس ممنوع.
البصق ممنوع، التسبيح، الركوع.
العبادة، العويل، التنخّع.
النوم ممنوع في هذه المنطقة
التطعيم، الحديث، الحرمان الكَنَسي
الانسجام، الفرار، الإمساك.
العَدْوُ ممنوع منعاً باتاً.
التدخين ممنوع. ممارسة الجنس ممنوعة.
—————————————-
ينحدر نيكانور بارا من عائلة بارا التشيلية المعروفة بكثرة مبدعيها من موسيقيين وفنانين وكتاب. وتعتبر شقيقته فيوليتا بارا أشهر مغنية شعبية تشيلية.
ولد بارا قرب مدينة شيلان، جنوب تشيلي في 5 أيلول / سبتمبر عام 1918. كان والده يعمل في سلك التدريس. في عام 1933، دخل بارا المعهد التربوي التابع لجامعة تشيلي، وتخرج عام 1933 بعد أن تأهل كمدرس للرياضيات والفيزياء.
بعد أن عمل معلماً في المدارس الثانوية في شيلي، سافر بارا عام 1943 إلى الولايات المتحدة لمواصلة دراسته في الفيزياء في جامعة براون. بعد ذلك توجّه إلى انكلترا لدراسة علم الكونيات في جامعة أكسفورد، ليعود إلى تشيلي ويعمل أستاذاً جامعي. ومنذ عام 1952، عمل أستاذاً للفيزياء النظرية في سانتياغو.
خرج بارا على اللغة الشعرية المتأنقة السائدة في معظم بلدان أمريكا اللاتينية، واعتمد لهجة أقرب إلى العامية. وتعتبر مجموعته الشعرية الأولى التي صدرت عام 1954 بعنوان “قصائد وقصائد مضادة” (Poemas Y Antipoemas) واحدة من كلاسيكيات الأدب في أمريكا اللاتينية، ومن الأعمال الشعرية الإسبانية الأكثر تأثيرا في القرن العشرين. وقد كان لها تأثير ملحوظ على بعض كُتّاب الجيل الغاضب الأمريكيين. ومن الجدير بالذكر أن الشاعر بابلو نيرودا عبّر عن إعجابه بها.
أطلق بارا على نفسه اسم “الشاعر المضاد،” وعلى شعره اسم “الشعر المضاد” و”القصائد المضادة.” ولعل ذلك يرتبط ولو بصورة جزئية بدراسته وتدريسه للفيزياء. فانشغاله في المسائل العلمية جعله يرفض فكرة أن للشعر قوة خارقة. بل إنه رأى أن الشعر يجب أن يتعامل مع الحياة اليومية وأن يعالج قضايا ترتبط بالواقع بأبعاده الثقافية والسياسية والدينية.
في 1 كانون الأول / ديسمبر 2011 قررت وزارة الثقافة الاسبانية أن تمنح بارا جائزة سرفانتس، التي تعتبر أرفع جائزة أدبية في العالم الناطق باللغة الإسبانية.
اعداد “صفحات سورية”