مختبر الحريات والأفكار
سعاد جروس
يقول مثل شعبي “إذا ما فيك تحكي عِنّ” بمعنى إذا لم يكن بإمكانك أن تحكي إنّ (من الأنين). مع أن التعبير بالأنين وسيلة في طريقها إلى الزوال، بعد تفشي عادة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك) و(تويتر)، فقد صار بالإمكان التخفي وراء اسم وصورة مستعارة والانطلاق في بطاح الشبكة العنكبوتية، ومخر عباب الحوارات الصريحة من دون خوف ولا وجل، ومع أن التخفي دليل خوف ويجعل نصيب الثرثرة أكثر والأكاذيب أكبر، إلا أنه من جانب آخر ينبغي ألا نغفل مفعوله ولا تأثيره، وهو أنه يتيح إطلاق الأفكار بحرية لا حدود لها، وما نشهده راهناً في كل العالم، وبالأخص في منطقتنا العربية اقرب إلى عملية عصف ذهني واسع الطيف، تتلاقح فيها الأفكار بسرعة البرق، منها ما ينضج ويتبلور ويتحول إلى واقع، ومنها ما يحترق ويتبدد في الفراغ الافتراضي.
في هذا المضمار، سقط أيضاً تحفظ المثقفين والصحفيين في حواراتهم الشفهية خشية سرقة أفكارهم قبل كتابتها ونشرها بأسمائهم، وكم من الخصومات حصلت وضغائن كمنت لأن فلاناً سرق من آخر أفكاراً ألقاها في جلسة دردشة. اليوم ثمة عقل جمعي يدور مثل حجر الطاحون، وما من فكرة تخطر في البال إلا ويوجد من يكون قد سبقنا إلى بثها في النت، وأشبعت نقاشاً قبل أن نفكر بكتابتها. ليس لأنه سرقها بل لأن مجموعة من البشر تعيش في الظروف ذاتها، تتشابه أفكارها مع أفكارنا، كما قد تتشابه ردود أفعالنا ومشاعرنا مع آخرين لا يعرفوننا ولا نعرفهم. فما بالنا ونحن نشهد يومياً تشكُّل مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي، تواكب الأحداث الجارية منها ما يلقى تفاعلاً صاروخياً ومنها ما يضمحل ويتلاشى.
المجتمع السوري كغيره من المجتمعات المهمشة كشف في هذه الصفحات عن طاقات هائلة وقدرات إبداعية، راحت تتفجر مثل ينابيع تتجمع لتشكل أنهاراً تروي أرضا عطشى، وتفرض واقعاً جديداً مذهلاً في اشتياقه للانعتاق والتعبير الحر، لا بل في التفكير الحر، سواء الرصين أو السخيف التافه، كل ذلك يتم بعيداً عن الوصاية، وهذه أهميته.
ضمن أكوام الصفحات والمجموعات، ثمة أفكار تستقطب الاهتمام أكثر من غيرها، تراها تعبر الصفحات والحدود، ناقلة معها التجارب والخبرات، وحين تشحن بالعاطفة تغدو العدوى سريعة الانتشار، لا يمكن ردها أو الحد من سريانها، إلا من خلال إنتاج أفكار نقيضة أقوى تقف في وجهها أو تلغيها، وربما تسحقها، ومن الطبيعي أيضاً أن تتفاعل معها… وهكذا دواليك، لا يبقى سوى الأقوى منها، القابل للحياة، والأكثر ملامسة للضمير الإنساني، لتكون بذلك بذرة التغيير التي سرعان ما ستنتقل من الحيز الافتراضي إلى الحيز الواقعي.
ولا شك في أن السرعة بإنضاج الأفكار التي توفرها مواقع التواصل الاجتماعي، تسهم بشكل أساسي في دفع عجلة الحراك المجتمعي، وربما تحوله بما يشبه السحر إلى ثورة ملتهبة. الأمر الذي كان يتطلب سنوات طويلة من العمل الثقافي والسياسي والفكري لتكوين مخزون تراكمي، قد يستهلك عقوداً ليصبح قابلاً للتطبيق على الأرض، كنموذج صالح للتصدير من دون ضمان لتحقيق النتائج ذاتها. إن تجارب الثورات العالمية السابقة يشير إلى استيراد للأفكار، وقد أدى استنساخ الشعوب العربية لتجارب الثورات الأوروبية إلى ولادة نماذج هجينة لم تؤد الغرض منها، بالعكس أضاعت قدرات وأجيالاً من أعمار الشعوب، وابتليت بإخفاقات، جراء غربتها عن البيئة العربية. أعطتنا دروساً قاسية حول فشل محاولات توطين أفكار جاهزة بالقوة، والنتيجة أكلها الزمن قبل أن تأكله وتحقق أهدافها.
ما نتابعه الآن هو العكس، حيث تبدأ عملية التغيير على الأرض، بالتواكب مع عملية إنضاج الأفكار، التي تبقى في حالة تجدد ومواءمة دائمة للمستجدات الراهنة “التكتيكية”، وكلما فشلت فكرة ولد بديلاً عنها، في مساحة مفتوحة على كل جديد ومن كل الاتجاهات. وهنا تكمن أهمية ما يحصل، فالانفتاح يحد من استفراد تيار من دون آخر في توجيه مسار الحراك ويحد من التطرف.
ومن يراقب معارك السوريين في (الفيس بوك) بين المجموعات المقسمة إلى ثلاثة فرقاء: معارضين، مؤيدين، حياديين، سيدهشه النشاط والحيوية الفائقة التي يتمتعون بها، وكمية الأفكار التي يتناقشون حولها على مدار الساعة، وكأن السوريين لا يعرفون النوم ولا عمل لهم سوى خوض عصف ذهني على مستوى الوطن، متجاوزين بذلك الآلة الإعلامية والدعائية التقليدية، وحتى دوائر صنع القرار. فتراهم يتلقفون الأنباء بسرعة فائقة وكل تطور أو حدث، كبيراً كان، أو صغيراً، أو عابراً يطرح للتداول والنقاش، وتظهر نتائجه من خلال تشكيل رأي أو موقف أو حتى رد فعل، وإذا كان الحدث متفاعلاً ومستمراً تتشكل مجموعة تتابعه أولاً بأول، وتُعِد مواد إعلامية متكاملة عنه، سواء بمقاطع الصوت والصورة، أو الوثائق والمواد الأرشيفية أو الرسوم الساخرة، ويكاد المرء لا يصدق أن كل هذه الكمية من المواد الإعلامية هو من صنع هواة، همهم التعبير عن الذات ومحاولة إثبات الوجود.
فإذا كانت “النت” مصنعاً للشائعات، فهي أيضاً مختبراً نموذجياً للحريات، وفي المناخ الحر ينبت الصالح والطالح معاً، وأحيانا تختلط الحدود بينهما، لكن عملية التضاد والتصادم تبين الخيط الأبيض من الأسود، لذا لا خوف من فتح الباب أمام حريات التفكير والتعبير وتداول المعلومات، فكلما ارتفعت نسبة الحرية ارتفعت نسبة الارتقاء نحو الأفضل، وإذا كانت السلطة السورية قد قررت رفع حالة الطوارئ، فكل ما يرجى أن لا يأتي القانون البديل الخاص بمكافحة الإرهاب ليفرغ هذه الخطوة الإيجابية والمهمة من مضمونها، ويتم تعطل أجزاء كثيرة من العقل الجمعي الذي يعمل اليوم بانسجام ويقوّم خطواته تلقائياً، وما نحتاج إليه اليوم، هو فتح الأفق ليتقدم العقل الجمعي بكامل طاقاته للمشاركة في بناء الوطن.
الكفاح العربي