مخطوفو دوما بوصفهم قضيتنا/ عمر قدور
قبل أربع سنوات، عشية اليوم العالمي لحقوق الإنسان، اختطف جيش الإسلام أربعة نشطاء في معقله؛ مدينة دوما في غوطة دمشق الشرقية. النشطاء، رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي، كانوا يعملون على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان من خلال “مركز توثيق الانتهاكات في سوريا”، ما يجعل لهذا التزامن معنى مختلفاً. قبيل الاختطاف كان جيش الإسلام قد وجه تهديداً مباشراً للناشطين، وليس هذا مصدر الاتهام الوحيد له رغم إنكاره تهمة الخطف، إذ يتوافر العديد من القرائن ضده، منها استخدام قياديين في جيش الإسلام أجهزة الكومبيوتر المحمول العائدة للناشطين الأربعة وفتح حسابات أولئك القادة من خلالها على وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يسهل تتبعه تقنياً.
يرى البعض أن من “حظ” هؤلاء النشطاء وجود سند إعلامي يُبقي قضيتهم تحت الأضواء، بخلاف معتقلين وناشطين آخرين بقيت معاناتهم في الظل. هذا الرأي لا ينمّ عن “حسد” مشروع أو غير مشروع فحسب، لكنه وهو يطالب بالمساواة الإعلامية في قضية حساسة كهذه يجرّد قضايا التغييب الفردية من بعدها الجماعي، فلا يبقى أيٌّ منها رمزاً لقضية الاعتقال عامة، ونصرةً لذلك المعتقل المجهول الذي لم يكن له حظ في ثقافتنا أسوة برمزية الجندي المجهول. أيضاً يصح القول هنا بأن تحول قضايا الاعتقال والتغييب القسري إلى همّ جماعي هو ما يحقق قدراً أفضل من المساواة، بدل الانشغال في تبخيس القضايا المعروفة حقها من الاهتمام.
البعض الآخر يرى في مجمل هذه الانتهاكات شأناً ثانوياً من شؤون الحرب، وقد ارتُكبت في العديد من المناطق ومن قبل العديد من أمراء الحرب، وربما يقيس على تجارب غير سورية خلّفت مئات أو آلاف المفقودين الذين لم يُعرف مصيرهم على الإطلاق. هذا الرأي، فوق أنه يقبل من فصائل معارضة ما لا يقبله من النظام، يشرّع عملياً لكافة الانتهاكات أثناء الحروب، مانحاً الحرب في حد ذاتها قدسية تعلو على أرواح المدنيين. ويجدر التوقف عند هذا الرأي لأنه كان فعالاً إلى حد كبير أثناء الصراع السوري واصطفافاته، فمثلاً قبل نحو سنتين كان جيش الإسلام نفسه يضع في أقفاص أسرى من قوات النظام ومن مدنيين موالين، بمن فيهم النساء، وينشر تلك الأقفاص في ساحات الغوطة بذريعة ردع قوات الأسد عن قصفها، من دون أن يلقى ذلك الانتهاك لأعراف الحرب الاستنكار اللازم سوى من قلة ضمن مجتمع الثورة. ردّ الفعل المتدني ذاته سنراه عندما أعدم جيش الإسلام القائد العسكري في الغوطة “أبو علي خبية”، ثم زيادةً في التنكيل وضع جثته مصلوبة على سيارة جالت في أنحاء الغوطة.
بالطبع لا تقتصر الانتهاكات على جيش الإسلام، فهناك الكثير من الانتهاكات التي ارتكبتها فصائل أخرى “احتُسبت على الثورة”، تبدأ بالتعدي على الأملاك الخاصة أو العامة لتمر بالتعدي على حرية الرأي لناشطي الثورة قبل غيرهم، وصولاً إلى الإعدام بعد محاكمات اعتباطية أو التغييب القسري مع الإنكار التام. ضجيج الحرب كان طوال الوقت يعلو على تلك الانتهاكات، وحدث مراراً وتكراراً أن نال فصيل التعاطف في جولات معاركه ضد قوات الأسد أكثر بكثير من الانتقادات التي نالها على انتهاكاته ضمن مناطق سيطرته، ويمكن فهم البعد الانفعالي الذي كان يدفع فيما بعد حتى أولئك المنتقدين إلى إبداء التعاطف في مواجهة المجرم الأول والأكبر.
يمكن القول الآن، بعد مرور أربع سنوات على تغييب الناشطين الأربعة في دوما، أن ضجيج الحرب قد هداً. لا لأن المعركة ضد تنظيم الأسد قد حصدت ثمارها أو بعض الثمار، وإنما لأن كل الفصائل انضوت في ترتيبات خارجية غايتها التسوية مع تنظيم بشار. الجبهة الجنوبية، الأقرب إلى العاصمة، مشمولة بتفاهمات أمريكية روسية، بعد ضبطها مطولاً من قبل غرفة الموك الأمريكية. فصائل الشمال تمضي على إيقاع تفاهمات بوتين وأردوغان، مع تبدل الأولويات لتتلاءم مع هواجس الأخير إزاء الموضوع الكردي. في غوطة دمشق تبرز الرعاية المصرية للتفاهم على التهدئة، ومن المعلوم أن تعويم الدور المصري يخفي وراءه رعاية إماراتية سعودية.
الأهم من هذا الهدوء أن التسوية المقترحة تقوم على دمج إمارة الحرب الأسدية مع إمارات حرب في الجهة المقابلة، التغيير الديموقراطي ليس في آخر هموم هذه القوى فحسب، بل إن بعضها يشاطر الأسد عداءه للديموقراطية على نحو تسجيل متداول لقائد جيش الإسلام السابق، أو لافتات في أماكن سيطرة تنظيمات أشدّ تطرفاً تنص على أن الديموقراطية شرك بالله. وفي الجانب الإنساني لا يُتوقع أن يتم الكشف عن مصير المغيَّبين قسراً أو المفقودين من قبل تلك الأطراف، وقد مررنا للتو بتمرين مشابه إثر القضاء على داعش، إذ لم تبادر الجهات المسيطرة الجديدة إلى التحقيق في مصير المخطوفين لدى التنظيم، ولم تتوفر أية معلومات حول سجونه وما حدث للسجناء الذين اختفى أثرهم.
يلزم أن نحيّد الجانب الانفعالي الذي أصبح بدوره من الماضي، فجزء من التعاطف مع بعض الفصائل كان وليد اصطفافات الحرب. وحتى إذا فكرنا ضمن منطق التحالفات السياسية فهذه مؤقتة بطبيعتها، وليس جديداً أن تنقضي تحالفات الحرب مع انتهائها، الأمر الذي يزداد إلحاحاً عندما يحصد جانب من المتحالفين بعض المكاسب بينما تُترك الخسائر للجانب الآخر. الخاسرون اليوم هم الذين لم تنتهِ معركتهم ضد تنظيم الأسد، أو ضد أية تسوية تدمج سيئاته مع سيئات أمراء الحرب. إبداء التعاطف في مواجهة المجرم الأكبر لا يرقى ليكون تحالفاً غير مشروط، وإذا اعتُبر كذلك فهذا لا يخوّل أي أمير حرب ادّعاء حيازته تمثيل المتعاطفين بعد انتهاء الحرب.
ثم من الضروري التصدي لمقولة بعض القوى الدوليين التي تنص على: نحن نعلم أن بشار الأسد هو المجرم الأكبر، لكن فصائل المعارضة ارتكبت انتهاكات أيضاً. المقولة التي يُراد بها مقايضة جرم بجرم، المقايضة المشابهة للمنطق العشائري، والتي لا يمكن التخلص منها، ومن تبعاتها السياسية، سوى برفضها جذرياً والإصرار على محاكمة جميع المجرمين بصرف النظر عن انتماءاتهم، وعلى أن العفو والتسامح “من قبل المجتمع والمتضررين شخصياً” يأتيان بعد المحاكمة، ولا يُفرضان بقصد منع إقامتها أو بقصد طمس الجريمة.
من ضمن قضايا مماثلة لها نفس الاعتبار الإنساني والأخلاقي، وسواء تحدثنا عن النسبة الأعظم في سجون الأسد أو الأقل خارجها، لا تجسد قضية مخطوفي دوما البعد الإنساني لمأساتنا فقط، وإنما أيضاً البعد السياسي الذي ينطوي على مستقبل سوريا. يلزم الكثير من الإصرار والصبر لخوض هذه المعركة، وهذا سبب إضافي كي نفتقد رزان وسميرة ووائل وناظم، وغيرهم ممن لا تتسع صفحات لذكر أسمائهم وشجاعتهم.
المدن