صفحات الثقافةنبراس شحيد

مداعبة على جسد حبيب تزلزل عرش الديكتاتور

نبراس شحيّد

هذه السطور هي محض لهوٍ يسخر من جبروت ديكتاتور. إنها تفتتح ذاتها باحثةً عن حنانٍ ما. لذا نراها تتسكع في شوارع ثائرة حيث يطفح حبٌّ غريب، لتضيع بعد برهة في اغواء مداعبة الجسد. كمسار سنونو بدأ رحلته قاصداً الهرب من الشتاء، تبتدئ هذه السطور مشوارها بحثاً عن شيءٍ ما لتنحرف فجأةً في فتنة الاستطراد فلا تصل إلى نهاية.

حين يفلت الحنان في لحظة لا ننتظرها، يتلعثم المجرم، وتعترينا شهوةٌ جامحة في العناق

“نحن لا نعلم إن كان هذا الرجل الشهم يأتي لزوجته، “تاج رأسه”، بالورود الحمر وأنواع الشوكولاتة الغالية في عيد الحب. أو كيف كان يعبِّر عن عواطفه لـ”ابنة عمه” في بيتهما الصغير، فهموم العيش في بلاد يداس أهلها بجزمات الجند ربما حالت طويلاً دون إبداء المشاعر الصادقة والعميقة”؛ مشاعر “بلغت في لحظة الحقيقة من الأَثَرَة حدّاً دفع صاحبَها للتضحية بحياته لئلا تضام زوجته او تُذلّ” (حسام عيتاني، “فالنتاين السوري”، الحياة 15/2/2013). “بالله عليكم، دعوني أودع أولادي”، يسأل الرجل شبّيحةً كانوا يسحلونه عارياً في أحد شوارع حلب. “أتسمح لنا باغتصاب زوجتك لنأخذك إلى أطفالك؟”. يسألون الرجل بخسّة، فيجيب متأرجحاً بين الحياة والموت: “زوجتي هي روحي… ابنة عمي، وتاج رأسي!”. أمام هذه الكلمات التي تقلب معادلات الفحولة كلها، يتلعثم المجرمون للحظةٍ تفلت من شناعة هذا الفيديو، ليستعيدوا وحشيتهم. يتابعون ضرب الرجل بجزماتهم العسكرية، ثم يطلقون عليه النار. جثةٌ على الأرض ممدّدة، وفي ملامحها المتعبة شغفٌ غريب! هل أخبر الجيران زوجته كيف مات حبّاً؟ هل شاهدت المرأة هذا الفيديو الذي يفيض حناناً لها حين تغرق في الغياب؟ هل جاءت لتداعب وجنتَي حبيبها الذي كان يخجل من أن يداعبها حفاظاً على تقاليد عتيقة؟ لا نعرف. لكننا نعلم جيداً حين نشاهد هذا الفيديو، أن رغبةً مرعبةً تتفجّر فينا، تجرفنا إلى مداعبة وجه مَن نحبّ قبل أن يفوت الأوان!

تولد “الأنا” من رحم المداعبة جسداً جميلاً، فسحةً للحنان

رغبةٌ استثنائية في جسد الآخر تجتاحنا وسط الدمار. تتعانق الأجساد بين الأنقاض حناناً، عنفاً، يتشبّث بعضها ببعضٍ بحثاً عن أمانٍ ما، في الوقت الذي تكتفي فيه المداعبة باللمس! تمرّ اليد على كتف الصديق أو الابن أو العشيق، على وجهه، على صدره، على جسده. لا تمسك اليد شيئاً، بل تستمر في العبور مقاوِمةً الرغبة في التوقف. تعترف المداعبة بجمال المصادفة حين تكتفي بالمرور. إنها تحتفل بحرية اللحظة الهاربة، وتفرح بأثرها السطحي العابر حين يتغلغل في المسام لينخر عميقاً في “الروح”. الجسد المداعَب يرتعش بكلّيته من حنان المداعبة، يشعر بوجوده، تطفو “الروح” على الجلد، تتكثّف فيه، في وحدةٍ غريبة بين “الجسدي” و”النفسي”، لتصير “الأنا” جسداً!

تضيع المداعبة في مساحات جسد الآخر، في أناه، لتعود فتولد من جديد بعد استراحةٍ قصيرة. تتسكع الأصابع يمنةً ويسرة، تدور بحثاً عن اللاشيء. تعبث بخصلات شعر متناثرة هنا أو هناك، فتتجلى حالاً من التيه العميق تسير بلا هدف. تشبه المداعبة الاستطراد اللغوي حين يقطع تماسك خطابٍ ما، ليطيل اللهو في تفاصيل لا أهمية لها، فيتجنب الوصول إلى النهاية؛ “حالٌ من الهرب المستمر من الموت” (إيتالو كالفينو عن الاستطراد اللغوي). المداعبة استطرادٌ، لكن في لغة الجسد، ولهوها يتجذّر في جمالية هذا الفرار من النهاية، ليمتد العبث حين يصير الجسد لغةً تبدع ذاتها. على اختلاف الفعل الجنسي الذي يسير إلى حتفه، إلى انطفاء الرغبة، تتمرد المداعبة على الخاتمة، لتتسكع في الجسد من دون غاية أو نهاية، فتخلق مكاناً وزماناً جديدين: مكانٌ للتيه من دون وجهة؛ فسحةٌ للحنان، وزمانٌ للهو يعترف بالعبور من دون أن يصل إلى خاتمة.

يقطّع الديكتاتور أبداننا بأحقاده، يكسر عظامنا في معتقلاته، فيجعل من الموت شهوة، أو رغبةً في طلاق “الروحي” عن آلام الجسد. يجلد الواعظ والخطيب أجسادنا، يغرّباننا عنها في دونية قديمة أمام “روحي” يبقى بعيداً عنا. أما المداعبة فتبدع جسداً ليس إلا “أنا”، تجبله من حنان وطين، تلملمنا، وتوحدنا.

يتلاثم العشيقان في الساحات فيتحرر الجسد من قبضة السلطان

في تونس، ردّت مجموعة من الناشطات والناشطين على القمع الديني والأخلاقي الممارس عليها بتكريس يوم الثاني عشر من تشرين الأول من العام الماضي يوماً وطنياً لتبادل القبل! تقاوم المجموعةُ القمعَ بقبلة، ردّاً على اعتقال عاشقين كانا يتلاثمان برفق في أحد أحياء العاصمة! شارع الحمرا في بيروت أيضاً، اجتاحته موجةٌ فريدة من الحنان العام الماضي، حين أخذت مجموعةٌ من الشبان والشابات تعانق المارة بشكلٍ مجاني ردّاً على الأحقاد الطائفية التي باتت تقيّد لغة أجسادنا: “غمرة ببلاش!” يقاوم حنانُ الجسد الحقدَ الذي تزرعه الأنظمة فينا، أطائفية كانت، أم مخابراتية أم عسكرية. شوارع الموت في سوريا تشهد يومياً شغفاً حنوناً حين تتعانق الأجساد في تظاهرة، في معركة أو جنازة، حين تقبّل أمٌّ قدمَي ابنها العائد على الاكتاف فوق خشبة، أو حين يداعب طفل صغيرٌ وجه أبيه ممرِّراً شفتيه على تجاعيده الباردة.

عندما لا تختم الخاتمة شيئاً يطول الطرب

ليس هذا المقال مقالاً، وليس هو مشهداً إيروتيكياً، بل حالٌ من فلسفة اللعب! إنه محض مداعبة عابرة تقدمّ ذاتها طريقة حبّ، لا بل طريقة وجود. إنه رغبةٌ ثائرة في حنانٍ ما يقاوم تسلّط “المطلق” السياسي والديني والأخلاقي علينا، فيلهو برفق على صفحة ورقية ليخيف ديكتاتوراً في زمن الموت.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى