صفحات الرأي

مدنـ”ـنا” ومدنـ”ـهم”/ حسام عيتاني

 

 

 

يشارك صديقي الرسام العربي المهاجر إلى السويد في مباراة تجريها بلدية مدينته حول رؤية جديدة إلى المدينة بعد خمسة عشر عاماً. ترمي المسابقة الموجهة إلى المهندسين والمعماريين والفنانين إلى المساهمة في تكريس الوجه الإنساني الصديق للبيئة ولذوي الاحتياجات الخاصة والموفر للطاقة والمعمم للحدائق والاخضرار للمدينة.

من وجهة نظر شخص قادم من مدينة عربية، تبدو المباراة ترفاً غير مبرر. فالمدينة تطبق معايير عالية في التعامل مع الضرورات البيئية، من فرز للنفايات وضبط لاستهلاك الطاقة ومراقبة للتلوث، ناهيك عن توفير الأدوات اللازمة في كل المرافق لتسهيل حركة ذوي الاحتياجات الخاصة وراحتهم، وهو ما يلاحظ في الشوارع والمحلات من دون استثناء. أما الحدائق والمساحات الخضراء (المغطاة بالثلوج في هذه الفترة من السنة) فلا تحتاج إلى ملاحظة لانتشارها بين المناطق السكنية وفي وسط المدينة.

علّقت على شرح صديقي لأهداف المباراة قائلاً إنها ربما تلخص الفارق بين مجتمعاتنا ومجتمعات اسكندنافيا: هناك ينظرون إلى المستقبل وكيف يجعلون منه أكثر ملاءمة لإنسانهم وأجيالهم المقبلة، عندنا ما زلنا نحاول مصالحة يزيد بن معاوية مع الحسين بن علي بن أبي طالب، وندفع آلاف القتلى في حروب أهلية بين مدّعي وراثة الاثنين. من نافل القول إن التعليق كاريكاتوري الطابع. فمشكلات السويد جدية وكبيرة وتمتد من البطالة والخشية من تزايد نفوذ اليمين المتطرف إلى التأثر بالأزمة الاقتصادية الأوروبية العامة ومسائل اندماج المهاجرين الذين يميل بعضهم إلى نوع من الاتكالية البليدة على المساعدات الحكومية من دون رغبة في العمل أو التحصيل العلمي المتاح للجميع.

بيد أن ذلك لا ينفي صفة أساسية ما زالت السويد مصرّة على الحفاظ عليها، على رغم تعرضها لنكسات كبرى في باقي البلدان الأوروبية منذ عصر المحافظين (مارغريت ثاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في الولايات المتحدة وهلموت كول – إلى حد ما – في ألمانيا)، وهي «دولة الرعاية» التي جرى تفكيك أقسام مهمة منها في عهود الحكومات المحافظة في التسعينات والعقد الأول من القرن الحالي، قبل أن يعود الاشتراكيون الديموقراطيون إلى الحكومة أواخر العام الماضي وفي جعبتهم مقترحات لإحياء دور الدولة من دون تكليفها أعباء جديدة.

لقائل أن يقول إن الكلام أعلاه عينة صافية من التأثر بمقولات المستشرقين والاستلاب بالغرب أو المرض به وتبرئة مجانية له عن ذنبه في تدمير مجتمعاتنا على مدى أكثر من قرنين واستتباعنا سياسياً واقتصادياً ومنعنا من النهوض واحتلال المكانة التي تليق بنا في العالم. ولآخر أن يزيد أن السطور السابقة تدعو إلى التشبه بالغرب الكافر وتجاهل قيمنا الأصيلة التي زرعها فينا ديننا وتراثنا…

نتجنب هنا الاعتراضات الثقافوية لنتجه إلى مشكلة ثانية، نراها لا تقل أهمية في العلاقة ليس مع «الغرب» الذي يؤخذ في العادة على إطلاق مخلّ، بل في الموقف من علاقة السلطة بالمواطن. ما يعاينه الإنسان في البلدان العربية من إفراغ للمؤسسات الواقعية والمفاهيم النظرية – سواء بسواء- من معانيها وجعلها مستوعبات للهواء والفراغ، غذّى نزعة عدمية- سينيكية («كلبية») باتت واسعة الانتشار.

قيم العمل والمساواة الجندرية والإنسانية والأخلاق بمعانيها العريضة والديموقراطية وحقوق الإنسان، باتت مواد سخرية وتهكم يومي، ليس من سياسيين من سماتهم اللؤم والعجرفة، بل من مواطنين لم يعودوا مستعدين لتصديق أي شيء يقال عن القيم تلك أو عن وجود من يعمل من أجلها. الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني والإعلام تعرضت لتدمير منهجي أحالها رماداً تذريه رياح السخرية السوداء والابتسامات الصفراء. لقد حولت عقود من استهلاك السلطة للشعارات وتعريتها من مضامينها الفعلية، المواطنَ العربي إلى كائن لا يقيم وزناً لغير العنف والقوة والتهديد بهما. وأصبح من الصعب عليه تصديق أن ثمة سلطة أو حكومة أو جهازاً أمنياً يسهر حقاً على رفاهيته وأمنه وسلامته.

عند كتابة هذه السطور ينتبه المرء إلــــى ضرورة الإكثار مـــن وضع الأقــــواس والأهلة المزدوجة حول الكلمات للإشارة إلــــى تعـارض مفاهيمـــها العــــامة مع استخداماتها العربية. فلا «المواطن» مواطن بالمعنى الدقيـــق للكلمة نظراً إلى غلبة انتــــمائه الأهـــلي على ذاك الوطــــني، ما يحيله عضواً في جماعة وليس فرداً في مجتمع، ولا «الدولة» دولة بعدما أبقت أبواب الشراكة مع العصبيات الأهلية مفتوحة، ولا السلطة سلطة… إلخ.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى