مدن السوريّ ومنافيه
إبراهيم حاج عبدي
كل ما عرفه السوريون، حتى وقت قريب عن اللاجئ، هو أن يكون هذا الأخير ضيفاً على أرضهم. ضيف يتقاسم معه السوريّ الماء والهواء والمكان، والكثير من الهموم والأحلام والآمال، وإذ بدت صفة “اللاجئ” ثقيلة وموجعة، عمل السوري على تبديد هذه الصفة كي يشعر الوافد بنصيبه الخفي من ثروة السوريين في السماحة والمودة واللطف، فتآلف الضيف مع المجتمع، ومع موسيقى الحياة. ولم يكن لطول فترة اللجوء أي تأثير في طبيعة التعامل، فمن حلّ اليوم في أرض السوريّ كمن اقتلع منذ أكثر من نصف قرن من أرضه. كالأخوة الفلسطينيين الذين بتنا بالكاد نتعرف على هويتهم الحقيقية طالما هم ولدوا في سوريا، وصاروا جزءاً من الثقافة والفضاء الاجتماعي السوري، باستثناء أن ثمة وثيقة سرية تميزهم، فضلاً عن مفاتيح صدئة وأوراق مصفرّة، امّحت حروفها من فرط التمعن في سطورها، تثبت ملكية منزل أو حاكورة أو أرض سلبت منهم منذ عقود.
لم يَدُر في خلد السوري أن الآية ستنقلب يوماً، وأنه سيتحول إلى لاجئ محطم القلب، يقطن في خيم نصبت على عجل، في العراء، ينتظر أن يرقّ قلب هذا الحاكم أو ذاك المسؤول، حتى يمنّ عليه بـ “سقط المتاع”، ولئن نجا السوريون من هذا المصير البائس فإن المنافي الأوروبية والأمريكية في انتظارهم كي ترتب لهم وضعاً يجعلهم “تعساء على نحو أفضل”. حان الوقت، إذاً، لأن يكون السوري لاجئاً، وضيفاً دائماً على أبواب السفارات وعلى أرصفة الموانئ وبوابات المطارات، يتفحص رجل الأمن طويلاً، بحذر وشك، في صفحات جواز سفره، بينما يردد السوري في دخيلته مقطعاً من قصيدة لمحمود درويش: لم يعرفوني في الظلال التي/ تمتصّ لوني في جواز السفر/ وكان جرحي عندهم معرضا/ لسائح يعشق جمع الصور…
قلق اللاجئ أو المنفي أو المغترب لا ينتهي، فهو يتطلع دائماً إلى مدن جديدة والى عواصم مختلفة والى جغرافيا بعيدة؛ رؤوفة لعله يعثر على بعض الهدوء، والصفاء. لكن داء الحنين مزمن وأبدي يصعب أن يبرأ منه اللاجئ إلى أن يعود إلى تربته الأولى، وموطن صباه الأول. ثمة كثر يرحلون عن أوطانهم في ظروف اعتيادية، بيد أن الرحيل القسري هو الذي يجعل القسوة مضاعفة، فاللاجئ لا يملك، في هذه الحالة، خيار العودة. هذا ترف يفوق أمنية اللاجئ… هو “محكوم بالأمل”، وفق عبارة سعد الله ونوس الموفقة، والأمل مؤجل على الدوام؛ بعيد المنال وسط هذا الخراب.
وتتفاقم مرارة السوري حين يجد نفسه لاجئاً على أرضه، وتلك حكاية أشد إيلاماً. أعداد كثيرة من السوريين نزحوا من منطقة إلى أخرى، داخل بلادهم، بحثاً عن أمان مفقود لم يعثروا عليه قط. حال هؤلاء ليس بأفضل من حال أقرانهم ممن هجروا إلى المنافي البعيدة والقريبة. فصول الألم تكتب مناصفة هنا وهناك، و”غودو” المنتظر لا يأتي، بل يأبى أن يرسل أية إشارة اطمئنان. ومن النافل القول إن آلاف التصريحات المتفائلة على الشاشات لن تنجح في بلسمة جراح طفل شُرّد من ملاعب طفولته، واستقر في “عين العاصفة”، فيما سنوات عمره الغض تذبل في الخيام وعلى حواف الحدود وهو يتطلع إلى مرح المدرسة والى “شارع مغرد ومنزل مضاء” في بلاد حلم بها آباؤه وأجداده… أمنيات بسيطة غدت ضرباً من المستحيل، فكان على السوري أن يختبر تجربة اللجوء المضنية كما لم يعرفها شعب على وجه البسيطة.
المدن