مدينة الحرية
ميشيل كيلو
إلى نجاتي طيارة ..
لا تكون ثورة الشعب ضد نظام الاستبداد إلا ثورة من أجل الحرية. إذا كانت شيئا آخر، فإنها لا تكون ثورة ولا تحقق الأهداف التي تحققها الثورة.
والثورة السورية لا هدف لها، كثورة، غير الحرية. إنها ليست ثورة طبقة ضد طبقة، أو طائفة ضد طائفة، أو جهة ضد جهة، أو قبيلة ضد قبيلة، أو زعيم ضد زعيم، أو حزب ضد حزب.. الخ. بل هي ثورة هدفها إخراج الشعب من عالم الاستبداد ونظامه، فهي إرادة شعب سلب حريته طيلة قرابة خمسين عاما، يضحي زرافات ووحدانا منذ قرابة ثمانية أشهر من أجل استردادها كاملة غير منقوصة، فهي إذن ثورة سيفيد منها كل سوري، بما في ذلك الذين لا يشاركون فيها أو يعارضونها، وأكاد أقول إن أهل النظام أنفسهم سيفيدون منها، لأنهم سيكتشفون، عندما تقوم سوريا الحرة، كم كانت خسارتهم كبيرة بسبب الاستبداد، وكم أفقدهم إنسانيتهم ووطنيتهم، عندما جعلهم عبيدا له وأوهمهم أن حريتهم في عبوديتهم له.
عندما لا تكون ثورة شعب مضطهد معذب من أجل الحرية، فإنها لا تكون ثورة ولا تستحق اسم الثورة. لذلك، لا حاجة إلى القول: إن «هوجة» طائفية أو تحمل سمات طائفية لا تكون ثورة ولا تأتي بالحرية، بل تحمل في رحمها استبدادا جديدا، كثيرا ما يكون أشد لؤما وشراسة من الاستبداد القائم. وعندما يكون الصراع قتال منطقة ضد منطقة أو أيديولوجية ضد أيديولوجية أو مذهب ضد مذهب، فإنها لا تأخذ من يخوضونه إلا إلى عبودية مضاعفة. ولأن الشعب السوري قام بثورته من أجل الحرية، فإنه لا يستطيع السماح لأحد بأخذها إلى غير هدفها الوحيد: الحرية، كي لا تضيع تضحياته سدى، ويعانى الأمرين من فشله الأكيد والقاتل. لا عجب، إذن، أن ينبذ الشعب من يريدون زجه في فتن طائفية أو مذهبية، ويعلن في بداية ثورته شعارا رائعا هو: «واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد»، ويكرر مع حادي الحرية الشهيد إبراهيم القاشوش: «سوريا بدها حرية»، ويرفض طيلة أشهر الثورة الأولى حمل السلاح أو التقاطه من الشوارع التي ملأها رجال الأمن بالبنادق والذخائر، لإغرائه بأخذها واستعمالها، دون أن يفلحوا في ذلك ولو مرة واحدة. ولا عجب كذلك أن الشعب أدرك بفطرته السليمة أن الأمن يريد قلب ثورته السلمية من أجل الحرية والمواطنة والدولة الديمقراطية والمساواة إلى عنف يضيع هدفها الأصلي: الحرية، فيمكنه عندئذ تشويه نضاله ومقاصده النبيلة، والقول بأنه لم يكن يريد الحرية والخلاص من الاستبداد، بل الفوضى والحرب الأهلية. لم يسقط الشعب في الفخ، لأن أبناءه يرون في الآخر والمختلف حليفا في معركة الحرية، ويرفضون اعتباره عدوا لا بد من القضاء عليه في معارك طوائف أو جهات أو قبائل أو مناطق أو أي معارك أخرى.
رفض الشعب في كتلته الكبرى تحويل معركته من نضال في سبيل الحرية إلى اقتتال بين مكوناته وواجه محاولات تمزيقه بوحدته الوطنية وتماسكه، رغم ما فعلته السلطة منذ يوم الانتفاضة الشعبية الأول وحتى اليوم، وبذلته بعض القوى والتيارات من جهد لدفعه في هذا الاتجاه القاتل. ولعل تجربة مدينة حمص تمثل مرآة تعكس مواقف الطرفين المتصارعين: السلطة بسعيها إلى تحويل نضال الشعب في سبيل الحرية إلى اقتتال طائفي ومناطقي، والشعب، الذي أفشل مساعيها، وتمسك باستماتة بهدفه العظيم: الحرية بما هي مبدأ للجميع، بغض النظر عن الجهة أو الطائفة التي ينتمي المرء إليها، والعقيدة التي يعتنقها. أدركت حمص بحسها الأصيل، الذي كان وراء نضالها الأسطوري ضد الاستبداد وتضحياتها الغالية جدا على قلب كل إنسان حر في العالم بأسره، ما يريده النظام، فقاومته وعملت على إحباطه وإفشاله. لقد فعلت ذلك ليس فقط لأنها وعت مركزية دورها ومكانتها من الثورة في سبيل الحرية، بل لأنها تعلم أن هدفها هذا لا يتفق مع أي شيء دونه أو يتعارض معه، وأن الحرية لا تقبل أن يخالطها ما لا يتفق وهويتها الإنسانية، وفي مقدمها الطائفية والمذهبية. بهذا الفهم، ردت بوحدة بناتها وأبنائها على محاولات السلطة تشويه نضالها في سبيل الحرية، فألفت لجانا مشتركة تضم ممثلين عن جميع أطيافها وقفوا كالسد المنيع في وجه محاولات السلطة والقلة القليلة التي تشبهها في الشارع من دعاة الطائفية والمذهبية، وأثبتوا أن المدينة سترد كيدهم إلى نحورهم وستواصل نضالها إلى أن تنال الحرية: لها وللشعب السوري، الذي تتقدم نضاله ببسالة ستبقى في ذاكرته إلى الأبد.
استهدف النظام النضال الشعبي من أجل الحرية في حمص: حيث بلغ ذروته، متوهما أنه سيتمكن من إثارة فتنة تقوض الثورة في كل مكان، وتحرفها عن غايتها الحقيقية، فيدعي عندئذ أن مجموعات إرهابية مسلحة تضم طائفيين إرهابيين سعوا إلى قتل بنات وأبناء وطنهم، وكانوا سينجحون في تنفيذ جرائمهم لو لم يقم هو بمنعهم من ارتكابها!. بهذا المعنى، تنقذ حمص برفضها الانزلاق إلى الاقتتال الطائفي أو المذهبي الثورة والحرية في سوريا، وتقدم خدمة لشعبها وللعرب وللعالم يصعب اليوم تقدير أهميتها، بل إنه يمكن القول إن مصير سوريا والحرية يتوقف على حمص وما تختاره، وهي لن تختار بالتأكيد غير ما اختارته دوما، وخاصة منذ بدء الانتفاضة: الحرية ولا شيء غير الحرية.
بلغت ثورة الحرية ذروتها في حمص، فليس معقولا أو مقبولا أن تنحدر من هناك إلى حضيض الطائفية، التي يرى النظام فيها أداة تمكنه من نقل المعركة إلى داخل المجتمع، بعد أن كانت خلال الفترة الفاصلة بين المجتمع وبينه، لكن حمص تحبط مساعيه كي تواصل مسيرتها الظافرة نحو الحرية، التي جعلت منها رمزا للشجاعة والتضحية في سبيل هذه القيمة الإنسانية العليا، يحمل العالم بأسره له أصدق مشاعر الإعجاب ويراقب بانبهار بطولاته التي لا يصدق عقل أن بوسع بشر القيام بها، لكن الحرية ما إن تسكن روح إنسان حتى يصير غير قابل للقهر أو للهزيمة.
يا حمص، يا مدينة الحرية، لا تسقطي في كمائنهم، وليكن لك ما أنت أهل له: مجد الحرية!
كاتب و معارض سوري
الشرق الاوسط