مدينة سَلَمية “نقطة زيت كبيرة في ماء سوريا”
عبير حيدر *
سَلَمية، المدينة التاريخية العريقة الجاثمة على مدخل البادية السورية، جذورها ضاربة في الزمان، عُرفت باسم «كور الزهور» زمن السومريين والآشوريين. وحين اختارها أنطيوخوس الثالث – السلوقي منتجعاً استشفائياً لطيب مناخها، لابنته «سلاميناس» المصابة بالسل، أطلق اسمها على المدينة بعد رحيلها، وهي منذئذ مدينة الموت النبيل. وفي زمن الامبراطورية البيزنطية، أصبحت سَلَمية مقراً لأبرشية مسيحية تتبعها حوالي ستين كنيسة، وتحولت إلى واحدة من مدن السلام السبع آنذاك، ومن دخلها مجرماً كان أو متمرداً يصبح آمناً ويتوقف الحرس عن اللحاق به. سَلَمية أم القاهرة في مصر والمهدية في تونس. فمن المدينة التي تحولت مركزاً رئيسياً للدعوة الإسماعيلية الباطنية، خرج عبيد الله المهدي إلى تونس ليصبح الخليفة الأول للدولة الفاطمية، ومن المهدية أرسل المعز لدين الله الفاطمي جوهر الصقلي ليبني مدينة القاهرة المحروسة.
أينما نَبَشتَ في أرض المدينة تصادفك الأقنية الرومانية التي يصل عددها إلى ثلاثمئة وستين قناة، فلا تجد بقعة أرضٍ فيها لم تروِها المياه يوماً. ولقنوات المياه في المدينة أساطير وحكايا، أشهرها «قناة العاشق» التي بناها أمير منطقة السلمية منذ ألفي سنة عربون حبه لابنة أمير مملكة أفاميا، بهدف نقل مياه سَلَمية العذبة إلى أفاميا على طول 150 كلم عبر السهول والجبال. ولا تزال آثار القناة موجودة حتى الآن. كما تطالعكَ بقايا سور قلعة المدينة التي كانت ستراً للدعاة الذين وجدوا في سراديبها السرية ظلاً يقيهم عيون العباسيين، ينكبّون على دراسة الفلسفة والعلوم ويخطون رؤيتهم الفلسفية للعالم وعلاقتهم الصوفية بالله. فيها كتب إخوان الصفا وخلان الوفا كتابهم، وأمضى المتنبي زمناً يرتوي من نبع فلسفتهم. وفي وسط المدينة، لا تزال جدران مقام «الإمام اسماعيل» البازلتية الضخمة تحتضن عبق زيوس وجوبتير ترنو مجدها السابق الذي توارى خلف ظلال آلهةٍ جديدة. وتجدُ قريباً من المقام الحمام الروماني الأثري وحيداً، يناجي زماناً تلاشى كانت فيه المدينة مقراً للقوافل التجارية القادمة من الجهات الأربع. وإذا ما نظرت إلى شمال غرب سَلَمية، تُطل عليكَ قلعة «شميميس» من على جبلٍ منفردٍ مخروطي الشكل، القلعة الصامدة منذ الزمن الهلنستي، تخبركَ بأن كلّ شيء غير ثابتٍ ما عَداها، وتواصل حراسة المدينة و خطوات عابري الطريق الغرباء.
سَلَمية ملجأ الخائف والشقي والمتمرد، وشغف الشعراء للحروف ونسائم ليالي الصيف العليلة وأوراق دوالي العنب وحقول القمح واللبن العربي والزبدة البلدية والسمنة الحموية وكؤوس «المتة» لتجمعات العجائز المسائية أمام أبواب منازلهن في الحارات.
نال التعليم في سَلَمية حظوة خاصة لدى أهلها الذين اشتهروا بثقافتهم ومستوى تعليمهم العالي. فمنذ بدايات القرن العشرين، مع الإهمال المتعمد من قبل العثمانيين والفرنسيين لاحقاً لتلك المنطقة، كَفَل صندوق الطائفة الإسماعيلية التعليم والمداوة، وهذا ما ساعد في انتشار المدارس فيها قبل انتشار التعليم الرسمي بعقود. وكانت المدرسة الزراعية التي تأسست عام 1911 أول مدرسة ابتدائية زراعية في بلاد الشام. وكان شرط التعليم في تلك المدارس حينذاك المساواة بين الذكور والإناث، وتفضيل تعليم البنت على الولد إذا كان الأهل لا يستطيعون تعليم سوى واحد منهما، حسب وصية الإمام «سلطان محمد» جد الإمام الحالي «كريم شاه». ورغم صغر المدينة، فقد برزت أسماء كثيرة من أبناءها، شعراء تحرَّفوا الكلمة أمثال: محمد الماغوط وفايز خضور وعلي الجندي، ومفكرون مثل عارف تامر ومصطفى غالب وإبراهيم فاضل، إضافة إلى محمود أمين وسامي وعاصم الجندي وحسين الحلاق وغيرهم.
من يزر سَلَمية وكان لديه متسعٌ من الوقت، فسيشهدُ عشق أهلها المفتوح للحياة، ويتلمس في شرايينهم ابتهاج الفرح الريفي. فحتى مدينتهم أطلقوا عليها تسميتهم الخاصة وهي مدينة: «الفقر والفكر والكفر»، فكل الأعياد أعيادهم، يحتفلون بها كأنها طقسٌ خاصٌ بهم وحدهم، من ميلاد السيد المسيح إلى رأس السنة الميلادية وعيدي الفطر والأضحى وعيد النيروز. وإذا ما هِمْتَ صباحاً في شوارعها الفقيرة يباغتكَ صوت فيروز آتياً من أبواب المحلات المفتوحة وشبابيك البيوت الهرمة، فأهل السَلَمية يحملون عشقاً خاصاً لفيروز. وفي ساعة الليل تكون الأغاني العراقية بحزنها الشجي رفيقة آهاتهم. أما في أيام العطل فيصير جبل «عين الزرقاء» متنفسهم الوحيد، وجهة أهل المدينة يحملون عرقهم ونبيذهم الذي غالباً ما يكون صنع أيديهم، وطعامهم المكون من لحم الضأن الغض الطري، عائلات وعشاقا، يصعدون الجبل لحفلات الشواء. ليس فقط الحياة تحظى بشغفهم. حتى الموت له طقوسه الخاصة لدى البعض، فالميت يُدفن بعد أن يُلبسوه أجمل ثيابه وغالباً ما ينزلون معه في التابوت الخشبي بعض الأشياء الخاصة به والتي كانت محببة إلى نفسه. فقد وضعت عائلتي في تابوت جدي زجاجة عطره المفضل وعلبة تبغه الفضية والقداحة ذات الفتيل القديمة التي كان يشعل بها لفافات التبغ. وربما جاءت عادة دفن الميت في السلمية بتابوت خشبي من الفينيقيين سكان المنطقة الأوائل.
الحنين إلى سَلَمية يستلقي في قلبي. آه، كلي أمل وأنا أتذكر أمس طفولتي، ألا يطويني النسيان بعيداً عنها. لطالما اشتهيتُ مكاناً يشبهها أينما رحلت، وحين خرجت منها تركت ظلي في أرضها المطيّبة بالشمس. مدينة علمتني عشق حريتي فامتلأت بها حتى أنني غادرتها دون ألم. وفي كل مكان وجدت بعضاً منها. في رمال الصحراء وهي المحاذية للبادية السورية، وفي الجبال وهي المزدانة بجبال البلعاس والعُلا والشومرية. أما رائحة البحر فتصلها عبر فتحة حمص بنسماتها الرقيقة المحملة بغيومٍ حين تمطر تدق الأرض بشغفِ قدميّ راقصة غجرية لتتفجر العيون والينابيع وتُحول سهولها الخضراء في نيسان إلى مروج حمراء مزركشة بشقائق النعمان، وكأن أدونيس استفاق لتوه من رحلة موته السنوية. وفي نهاية الصيف تزدان المدينة بلون السنابل الشقراء، وتنام أرضها الشتاء كلّه ببنيٍّ قاتم. قال عنها أيوب الراهب: «كأنّ زهورها لا تغفو ولا تفنى، مولعة بكَرَمٍ مجنون: نُؤوي الدخيل حتى الفَرَجْ، ونُطعِم الجائع حتى جوعنا، لا نفرق بين القادمين إلينا ما دامت تجتذبهم زهور بساطنا».
حافظَ أهل سَلَمية على الوجه العلماني لمدينتهم. فمعظم انتماءاتهم السياسية كانت للأحزاب اليسارية والقومية. وحَفَلت المدينة في خمسينيات القرن الماضي بنشاطٍ سياسيٍ غني بالتجارب المختلفة، ضمت كل ألوان الطيف السياسي السوري. أخبرني أبي عن تلك الفترة بأن حارات سلمية حينها لم تعد تُعرف بأسماءها المتداولة: الحارة الغربية والشرقية..، وإنما أصبح يُطلق عليها حارة الشيوعيين وحارة القوميين وحارة البعثيين. فسَلَمية التي اشُتهرت بالعديد من القيادات البعثية الهامة، وهبت بالمقابل الكثير من المعارضين لحكم البعثيين الذين لوحقوا وزج بهم في السجون لسنين طويلة. وبهدف القضاء على روح التمرد الأصيلة في نفوس أبناءها، لاقت المدينة التهميش والفقر والحصار وغاب عنها اهتمام الدولة منذ وصول البعثيين للسلطة.
وفي العام ،1982 حينما كان الصمت يَلُفّ كل مدن سوريا أثناء قصف حماه، كانت سَلَمية الأم الرؤوم لجروح أهل حماه، وكثيرٌ من الحمويين الذين لجأوا إليها حينذاك استقروا بها ولم يغادروها أبداً. واليوم، في زمن ثورة الحرية، كانت سَلَمية ثالث المدن التي تتمرد بوجه النظام السوري بعد درعا وحمص، وشكَّلت المتنفس الحيوي لحماه وحمص تستقبل وتحتضن النازحين، وتوصل المؤن إلى الأحياء المحاصرة في حمص، والعديد من شبابها استشهدوا أثناء تأديتهم لواجبهم هذا. قال عنها ابنها الشاعر الكبير محمد الماغوط: «سَلَمية نقطة زيت كبيرة في ماء الوطن. ولقد فكرت السلطات المتعاقبة جدياً في تقطيعها كالحية هي وكهولها وشبابها ومقابرها ووضعها داخل كيس ثم قذفها إلى الجحيم».
عندما تسكنكم الوحدة، فسماء سَلَمية كتاب مفتوح الدفّتين لكل مريدي الحرية والحرف والانفلات العذب من قيود العقل، مدينة بُنيت من الألم والصبر والشغف المستمر بالحياة.
* كاتبة من سورية
السفير