مذاق الحياة/ عزيز تبسي
-1-
حاولوا إيهام من يراقبونهم أنهم مجذوبون، كلّموا أنفسهم بأصوات عالية، وهم سائرون بتمهل على الرصيف، حيوا عابرين لا يعرفونهم، بعضهم ينظر إليهم بريبة، قرعوا أبواب الأطباء البيطريين ليسألوهم عن الوفير في أنفلونزا الخنازير، وعن الأنفلونزا المنسوبة للطيور. يسألون باعة السحلب عن درجة سخونة سحلبهم. يستفسرون من باعة اليانصيب عن مدى الجدية في إطلاق تعبير “الكبرى” على الجائزة المالية التي لايكفون عن وعد المشترين بها.
تمهلوا أمام الحوانيت، غارسين أكفهم بجيوبهم الخالية من النقود، ضاغطين بأصابعهم المضمومة على مناديل ورقية قديمة ومفاتيح بيوتهم، استفسروا بتأنٍ عن حوائجهم المتخيلة وأسعارها، من أصحابها الجالسين على كراس خشبية قرب أبوابها، الذين سرعان ما وقفوا ودعوهم بلهفة إلى الداخل، لم يكن باستطاعتهم شراء ما يعرضونه عليهم ولا ما يرونه زاهياً فوق أرففها المضيئة، بل لإلقاء نظرة يحسبونها أخيرة على الأمكنة التي تتصنع الحياة.
– أنت نازح؟
– لا.
يسحب يديه على الفور من جيبه، ليرشد السائل عن بيته، فيشير باتجاه شاحنة عسكرية، تتبعها مجموعة من السيارات المموهة بالوحل وأغصان الأشجار.
(لكنهم) هم ليسوا مجذوبين… يخترعون تدابير لتمرير هذه الأوقات العصيبة على أولادهم الصغار، علّهم ينهضون قليلاً، تزداد أطوالهم وتنتفخ عضلاتهم… يمررون الأيام على حيواتهم… لم يتمنوا الموت لأنفسهم ولا لأحد… لا لقيمة حياة المهانة التي يعيشونها، بل لأن في رقابهم عائلات، ستتبهدل أحوالها إن فقدت من يجلب لها الخبز والماء.
من أوراق التقويم، تيقنوا من زوال السنة، أشهرها، أسابيعها، أيامها. ومن أوراق التقويم الجديد، تأكدوا من دخولهم سنة أخرى. ودوماً في هذه البلاد، من يبدد الزمن، كأنه سفح ماء على بلاط صقيل.
– أكانت كبيسة؟
– لا أعلم، لكننا تحولنا في أيامها، وأيام السنوات التي سبقتها إلى كبيسة.
لم تحتج هذه الشعوب لحقول تزرع بالألغام، قليل من رغوة الصابون كاف لانزلاق أقدامها وتحطم عظامها، وقليل من العقائد التي تضمر ما لا تفصح عنه، كاف لإدخالها في تيهٍ ينفتح على هاويات لا قرار لها. ولم يكن من المجدي كذلك ترويعها، بتذكيرها بالقدرة الحربية الفائضة الكافية، لتحويلها مع مدنها وبلداتها إلى حقول بطاطا.
-2-
في برد المربعانية، استرجعوا دفء حرامات “المرعز”، بوبرها الظاهر، وانشداد خيوطها الداخلي المحبوك بحذقٍ، التي توقف الهواء البارد عند حدوده، وساعات تمرّغهم فوق السجادة الأصفهانية التي تغطي أرضية الصالة، وتلون سكونها الواجف بزهورها وطيورها، حامين أقدامهم من برودة البلاط السقيم، بصوفها النافر كعشب، وبجوارب سميكة ترتفع إلى حدود ركبهم، وبالألبسة الصوفية التي حاكتها أمهم في الصيف. قبل أن يطوقوا بقوس المدفأة الملتهبة بنارها، مصغين إلى طقطقة قشورالكستناء فوق صفائح حديدها الحار، متفقدين إبريق الشاي بالقرفة برفع غطائه من حين لآخر. بيوت استكمل أهلها شروط الدفء لأولادهم.
لكنهم الآن يرتجفون من البرد، الذي أنهك عظامهم. يتعثرون في الحصول على أي مادة تشع بالحرارة. لم يهيئوا مدافئهم لاستيعاب الحطب وبقايا القش وأوراق الشجر وأغصانها التي أمسى في المدينة من يجمعها ويبيعها، كما لم يتورطوا في استعمال بقايا البلاستيك التالف و”الشحاطات” وعبوات السوائل ودواليب السيارات.
كأن البرد يتعب الذهن ويشتت انتظام الأفكار، لكنهم ما انفكوا يتداولون، وهم يفركون أفخاذهم المثلجة، بأفكار أشد عشوائية من أماكن سكنهم، التي أمست تغدو مع مرور الوقت وغرائب الكلمات، كرشق حبر على لباسٍ مدرسي خارج لتوه من تحت المكواة الحامية.
ويفكرون وهم في دوامة الثلج ، أنهم بحاجة كذلك، إلى قسط من حنان راسخ، يظلّل هذا البرد الصقيعي في دهاليزه، ويمنحهم حفنة من الحب البهيج، حتى لو أتى بهيئة كنزة صوفية، مغزولة بالمبالغات العاطفية المملة.
-3-
وفي الجوع استحضروا “زوّادة الرعيان”، التي استرجعتها أمهم من ماضيها القروي. وماهي سوى منديل قطن أبيض طُرزت فوق زواياه الأربع زهور فتية… حمّلتهم إيّاها بعدما شجعتهم على مغادرة البيت للنزهة، التي لم تكن إلا عبوراً إلى حدائق قريبة من بيتهم العالي، كي لا تبدد المسافات البعيدة، تنهدات أشواقها، وزفرات خوفها، وارتجافات انتظارها.
طالما أربكهم حمل هذه “الزّوادة”، التي حسبها كل من رآها “البقجة”، التي تضع فيها النساء ثيابهن وثياب أولادهن النظيفة مع الصابون والليف أثناء الاستعداد للذهاب إلى الحمام، أو مخدة لسرير طفل.
لكنها “زوّادة” من طعام عائلي حميم، منحتهم الإحساس المسبق بالشبع، لا للقوة المضمرة في الأرغفة المطبقة فوق بعضها، الممتلئ جوفها بشرائح جبن الغنم والخيار، بل لأنه تقف وراءها من هي حريصة على إشباعهم، بتلك القوة المضافة، التي يختزنها الكريم ويمنحها، حين يفتح بوابات خزائنه، بإغداق سخي من خبزها وزيتونها وتينها المجفف.
لا طعام يعلو رغيف الخبز، المتشبع بزيته وزعتره، لا طعام يعلو التين الذي أرغم، تحت الشمس القائظة، على الجفاف، واختزان فصوص الجوز المحمص في باطنه الدبق.
– أأنتم رعيان؟
– لا، نحن نحمل زوادتهم فحسب.
يضعون هذه “الزوادة” في مكان مرئي، كي لا تغيب عن أبصارهم، غير مكترثين بالكلمات التي تحمل صيغة المهانة، التي تطلق عليهم. وهم لم يكونوا رعيانا يوماً ولم يروا قطيعاً، يسير إلى مراعيه، لكنهم الآن رعيان بلا خراف تنصت إلى مزاميرهم الشجية، ولا أكباش تُقرّع رنين أجراسها المعدنية الصمت الخبيث، وتشق الطريق إلى الديار.
يركضون حول بعضهم وحول أشجار بازغة كشمس لا تنطفئ، ساحجين أكفّهم وركبهم على الحصى، شاجين جباههم بجذوع أشجار مائلة، ليعودوا إلى بيتهم العالي، حاملين زوّادتهم التي لم يتبقَ لهم وقت لفكّ عقدتها.
– أأنتم رعيان ولاك؟
-لا، نحن خرفان سيدي.
حلب، شباط 2016
العربي الجديد