صفحات الرأي

مراكز التفكير في الغرب: فرنسا الأضعف/ أحمد فرحات

 

 

يهدف أي مركز بحوث ودراسات جدّي في أي بلد متقدّم في العالم إلى إعداد دراسات وأبحاث استراتيجية (باتجاهين، بعيد المدى وقريب المدى) في السياسة والأمن والمجتمع والاقتصاد والفكر والتنمية والتاريخ والسوسيولوجيا والإنتروبولوجيا والثقافة…إلخ، خصوصاً في إطار إلقاء الضوء على الأوضاع القائمة والمستجدّة في البلد المعني، ومن حواليه، في المنطقة والعالم. يتمّ درسها، وتقييمها، وتحليل معطياتها، بهدف الإسهام في درء المخاطر الكبرى قبل حدوثها، أو حتى في أثناء حدوثها، أو بُعيد حدوثها، بحيث تُمكّن صانع القرار السياسي من اتخاذ قراره المناسب، أو على الأقل، المساعدة عليه، تجنباً للأسوأ.. فالأكثر سوءاً.

وقد نشأت مراكز البحوث، إجمالاً، بعد الأزمات الكبرى التي هزّت الغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، وكان أولها ظهوراً المعهد الملكي للخدمات الدفاعية الموحدة في لندن؛ أسّسه دوق ويلينغتون في عام 1831. وركّزت أبحاثه ودراساته حول قضايا الدفاع والأمن، الوطنية والدولية. ومن بريطانيا، انتقلت فكرة تأسيس مراكز البحوث إلى الولايات المتحدة، ثم إلى الاتحاد السوفييتي سابقاً والصين واليابان، فكانت تهتم أول ما تهتم كذلك، بالبحوث العسكرية والتنموية، خصوصاً في ذروة زمن الحرب الباردة بين جباري الغرب والشرق: واشنطن وموسكو.

ومع أن الفرنسي أوغست كونت هو الذي قال “إن الأفكار هي التي تحكم العالم”؛ إلا أن مفهوم “مراكز التفكير” لا يزال يثير بعض الحذر في فرنسا. وغالباً ما يربط بذاك المفهوم الضبابي الآتي من وراء الأطلسي: “لوبي الضغط”، المبعد رسمياً عن اللغة المؤسساتية في فرنسا، وإن تغيّر هذا المفهوم بعض الشيء في بلاد ديغول، في العقود الثلاثة الأخيرة، تحت إلحاح الضرورة، وتجنّب أن يضطلع آخرون بهذا الدور الحيوي الخاص برسم الأولويات السياسية الاستراتيجية لفرنسا. ومن هنا، جاءت فكرة إصدار كتاب: “مراكز الفكر… أدمغة حرب الأفكار” للمؤلفين الفرنسيين/ ستيفان بوشيه ومارتين رويو (ترجمة ماجد كنج، دار الفارابي بيروت) ليلقي الضوء على مراكز التفكير وأدوارها الآنية وبعيدة المدى، ودعوة كل النخب السياسية والفكرية والاقتصادية والفاعليات الاجتماعية الفرنسية، لدعم مثل هذه المراكز، وإنشاء أخرى جديدة أكثر تخصّصاً؛ فمعروف أن مراكز التفكير في فرنسا، هي الأقل عدداً وفاعلية بالنسبة إلى مثيلاتها في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا. ثم إن الحياة الديمقراطية الحقة في أي بلد، لا تستقيم من دون وجود مختبرات الأفكار التخصّصية الفاعلة والمتفاعلة هذه؛ فإشراك مختلف النخب والمهتمين في الإبداع السياسي الفرنسي، باتت مسألة أكثر من ملحة، خصوصاً في زمن صارت فيه مراكز البحوث تضطلع بدور ريادي في قيادة العالم.

إذا، إن كلاّ من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا سبّاقة على فرنسا وغيرها من دول الغرب

“مراكز التفكير في فرنسا، هي الأقل عدداً وفاعلية بالنسبة إلى مثيلاتها في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا” في مضمار عمل “خزانات الأفكار”. فبريطانيا، وهي بلد المنشأ، عرفت مراكز تفكير جديدة، متطورة وأكثر تخصّصاً في ما بعد، من أبرزها المؤسسة الملكية للشؤون الخارجية، والتي استحصلت كما يقال على “شاتام هاوس” في 1923. ثم مركز “مؤسسة آدم سميث” المعني بالدراسات السياسية الاستراتيجية، المحبّذة بقوة لكل ما يخدم الرأسمالية الغربية المحافظة والعابرة للقارات. وهناك 19 مركز فكر جدّي آخر في بريطانيا، منها 7 مختصّة بالتنمية الأوروبية، والأخرى تركّز اهتمامها على القضايا الوطنية لهذا البلد العجوز، والذي استولد نفسه مجدّداً في صورة الولايات المتحدة وسياساتها الاستراتيجية القاريّة إيّاها.

أما ألمانيا، ففيها العدد الأكبر من مراكز التفكير بين دول الاتحاد الأوروبي، بحدود الـ105، أهمها محلياً، ولجهة الشهرة الدولية مؤسسة فريديريش إيبرت ومؤسسة كونراد، وكلاهما يهتم، بالإضافة إلى الشؤون الألمانية، بمسألة التحفيز على الديمقراطية في الخارج، خصوصاً في الدول الأفريقية ودول أميركا اللاتينية. وثمة مراكز تفكير اقتصادية ألمانية ناشطة ومؤثرة للغاية، محلياً ودولياً. ولأجل ذلك، يحتشد لها الإعلام الأوروبي والدولي، وكذلك الحكومة الألمانية، والبنك الفيدرالي الألماني، علاوة على الاقتصاديين الفاعلين داخل ألمانيا وخارجها؛ ومن هذه المراكز: “دي. آي. دبليو” في برلين، و”آي. أف. أو” في ميونيخ، و”آر. دبليو. آي” في آسن، و”أتش. دبليو. دبليو” في هامبورغ.

أما فرنسا الأضعف بينها، فمراكز التفكير الجديّة فيها “قليلة العدد وفقيرة جداً ومنغلقة كثيراً أو محصورة في نطاق الدولة التي هي دوما متهمة بالتدخل”، على حد تعبير الباحثين الفرنسيين، ستيفان بوشيه ومارتين رويو. والمراكز الفرنسية، كما يردفان “موهوبة للبحث أكثر منها للتأثير؛ ولهذا السبب، هي أقل فعاليّة من نظيراتها الغربية موضع المقارنة”.

أما الولايات المتحدة، فلقد طوّرت مراكز التفكير التي انتقلت إليها من بريطانيا، حتى باتت اليوم النموذج الملهم لنظيراتها في أوروبا والعالم. ومن فرط قوة نفوذها، صارت مراكز التفكير الأميركية صاحبة القرار في الحرب، وفي الإحجام عنها، وكذلك على مستوى المشروعات الاستراتيجية القومية، وما بعد القومية الأخرى لدى واشنطن، في الاقتصاد والعسكرة والعلم والتكنولوجيا والهيمنة على بحار العالم…إلخ.

وما يجدر ذكره هنا (مثالاً لا حصراً) أنه في 1997 قدّمت مؤسسة أميركية تُدعى “مشروع القرن الأميركي الجديد” إلى الرئيس بيل كلينتون مشروع غزو العراق بذريعة تفكيك “أسلحة التدمير الشامل” فيه. وبعد ذلك بسنوات، تبنّت إدارة بوش الابن الفكرة واجتاحت العراق.

وفي الولايات المتحدة مئات مراكز التفكير، من أهمها معهد بروكينغز، وهو الأول على سائر المراكز، خصوصاً لناحية التأثير على أصحاب القرار، والكونغرس، وباقي مفاصل “الإستبلشمنت” الأميركية. ثم مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو الأفضل في مجال الاستراتيجيات الأمنية والشؤون الدولية، وباحثوه من الحزبين، الجمهوري والديمقراطي. ومركز مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي المعروف باهتمامه بالتحوّلات السياسية والاستراتيجية في الشرق الأوسط والعالم العربي…إلخ.

هكذا، فإن أي متابع علمي لمشهد مراكز التفكير في الغرب يستنتج أن أوروبا ليست مجهّزة لمواجهة التفوّق الأميركي في حرب الأفكار، والأسباب عديدة، لعل أهمها في رأي الباحثين، ستيفن بوشيه ومارتين رويو، هو ذاك التنافر الذي يسود غالباً بين دولها الخمسة والعشرين؛ وهي تتيح دوماً لواشنطن كي تجد حلفاء لها من بينها. والبرهان على ذلك تلكم الرسالة المفتوحة للدول الثماني الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، عندما كان بوش الابن يسعى إلى الحصول على دعم أوروبا في هجومه على العراق. هذه الرسالة المفتوحة لثمانية دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي تدعم قرار واشنطن لخوض “حرب وقائية” ضد صدام حسين، وتفصح عن خلافها مع فرنسا وألمانيا اللتين رفضتا تغطية الضربة العسكرية، وبالتالي، الاشتراك في الغزو العسكري لهذا البلد.

العربي الجديد

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى