مرسي والثورة السورية.. آخر الآمال قبل خراب البصرة
د. طارق أبو غزالة
لم تشهد ثورة من ثورات الربيع العربي شدًّا وجذبًا مثلما تشهده الثورة السورية. لم يقتصر هذا الشدّ والجذب على القوى الثورية في مقابل النظام المستبد، لكنه تجاوز حدود ســـوريا إلى جوارها وإقليـــمها ومن ثمّ إلى كافة المحافل الدولية في نسق لم يشهد العــالم له نظيرا منذ عقود.
إن ما تتعرض له سوريا منذ عام ونصف من تدمير وتفتيت وقتل وتهجير لهو كارثة، وهذه حقيقة لا ينكرها أحد. ولكن هذه الكارثة لم تنته بعد وليس في الأفق ما يدل على قرب انتهائها رغم كل ما يبثه الطرفان، النظام الجلاد، والضحية المقاومة، عن قرب بشائر النصر، كل حسب روايته. فالقتل والتدمير لا زالا ينزلان بالسوريين ليل نهار حتى فقدنا القدرة على تحديد لحظة متى يبدأ عدّ الشهداء في فترة الأربع والعشرين ساعة.
ومن المسلّم به اليوم لدى كثيرين أن ما يحدث في سوريا له هدف واحد ألا هو إضعاف هذا الشعب المقاوم على يد جلاد لا يرحم وبتواطؤ دولي مريب اجتمع فيه الفيتو الرو- صيني مع الصمت الأورو- أمريكي. وتعزز ذلك كله بمحور يعمل مع النظام يستند إلى معادلة طائفية بالية عمرها أكثر من ألف عام تمتد من إيران إلى العراق فحزب الله، ولكلٍّ من هؤلاء أجندته الخاصة به المنفصلة عن أجندة النظام السوري.
فالمؤامرة تتلوها مؤامرة والمهلة تتلوها مهلة وكل ذلك في سبيل القضاء على عنفوان هذا الشعب وحيويته في نضال مستمر منذ قرن كامل من الزمان من يوم قسّم بلاده وبلاد الشام وزير خارجية بريطانيا السير مارك سايكس ووزير خارجية فرنسا جورجيس بيكو في أيار/ مايو 1916 بمعاهدة سايكس-بيكو سيئة الصيت. ثم ما تلا ذلك من إقطاع فلسطين ليهود العالم بوعد بلفور الشهير ومحاولة إبقاء الوضع في بلاد الشام على ما هو عليه بميزان لا تميل كفته الا إلى إسرائيل في كل المحافل، وذلك على حساب كل المكونات البشرية والثقافية والدينية والمذهبية التي تزخر بها بلاد الشام، والتي لم تكن يومًا إلا عامل قوة لجميع سكانها من عرب وكرد وتركمان ومسلمين ومسيحيين ويهود وشيعة وعلويين ودروز وإسماعيلية، وباقي المكونات الأخرى التي هي أكثر من أن تحصى في مقالة قصيرة، ولكنها كانت كلها دومًا عوامل إغناء لباقي المكونات.
إن هذه التركيبة التاريخية والجغرافية والبشرية المعقّدة هي أحد الأسباب الهامة وراء إطالة أمد القتل واستحراره في السوريين خلال ثورتهم الفتية.
مائة سنة تقريبًا انقضت وكل منطقة بلاد الشام لا تكاد تخرج من أزمة حتى تدخل في أخرى، وهو ما أنهك شعوبها وهدَّ من قوتها، ولكن مع ذلك حافظت على حيويتها. بل إن سوريا كانت عام 1952 وبعد ست سنوات على استقلالها عن الاستعمار الفرنسي الدولة الثانية من حيث النمو الاقتصادي في آسيا بعد اليابان، وكانت هي المرشحة أن تصبح ماليزيا الشرق الأوسط لو استمرت بذات وتيرة النمو. ولكن مجيء حزب البعث إلى السلطة عام 1963 وإحكامه لقبضته على مفاصل الدولة، ثم تحول تلك القبضة عام 1970 إلى قبضة حديدية مطلقة تركزت بفعلها كل مقومات الدولة بيد نظام عمل على بث الطائفية في مجتمع لم يعرفها من قبل إلا نادرا في أزمات كانت توأد في مهدها بفعل الوعي الشعبي الذي كان التعايش والتراحم الأهلي أبرز سماته.
وبعد حكم النظام لهذا الشعب أربعة عقود بالحديد والنار ومع انقداح ثورات الحرية في ربيع العرب ثار السوريون ضد الاستبداد مثل إخوانهم في تونس ومصر وليبيا واليمن، لكن مع فارق هو أن هذه الثورات لم تكن لتنتصر على مستبدّيها لولا حبل من الله أولا ثمّ حبل من الناس. فالتونسيون كان لهم في جيشهم أكبر رديف للنصر والمصريون سارعت أمريكا لعونهم في إزاحة مبارك عن صدورهم وذلك عبر إيعازها للجيش المصري بعدم التدخل لصالحه، وليبيا تدخل معها حلف الناتو، وفي اليمن فإن نصف الشعب الثائر كان مسلحًا بذات السلاح لدى صالحٍ ورهطه. أما السوريون فواضح في ثورتهم انقطاع حبل الناس عن دعمهم بشكل يؤدي إلى نصرتهم مثل باقي إخوانهم، بل وجدنا أن من إخوانهم الذين انتصروا على مستبديهم بالأمس القريب من ينصح لهم بالتعقل ومحاورة جلاديهم بينما لا زال هو يطالب برأس جلاده على رؤوس الأشهاد في قمة مكة المكرّمة في ليلة القدر! تلك القمّة التي لم يبق منها بعد أن انفضّ السّامر إلا قرار يقضي بتجميد عضوية سوريا في منظمتها فيما تدين وبأشد لغة، محقة، الجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب بحق مسلمي الروهينغا على يد حكومة ميانمار.
ومع اشتداد حلكة الليل المحيق بالشعب السوري وانقطاع الحبال الخارجية كافة بدأ يلوح في الأفق بصيص نور قد يعينه على تحقيق نصره قريبًا بإذن الله. ولكن وقبل الحديث عن هذا الأمل لابد من الإشارة إلى نقطة شديدة الأهمية، ألا وهي أنّ المعارضة السورية بكل أطيافها الثورية والعسكرية والسياسية قد درجت مؤخّرا على تحميل إيران ‘كلّ’ قبيحة تجري في سوريا بصيغة أصبحت برأيي مبالغًا فيها. فحسب هذا المنطق، فإن الجرائم المرتكبة يرتكبها إيرانيون، والطائرات التي تقصف المدن والقرى السورية إنما يقودها طيّارون إيرانيون، والذبح يقوم به إيرانيون وهم من يدرب جنود النظام وشبيحته وينظمهم في ميليشيات على غرار جيش المهدي في العراق.
لا شك أنّ إيران داعمة للنظام عسكريًا وماديٍّا لكن ذلك لا يعني أنها هي التي تقاتل الشعب السوري، فمعركة الشعب السوري لا زالت مع جلاده السوري وليست مع إيران التي ليس من مصلحة الشعب السوري أن تدخل فعلا في المعركة ضده لأن ذلك سيؤدي حتمًا إلى تضاعف أعداد الضحايا بشكل كبير جدا، فضلا عن الخراب والدمار الذي لا قبل لنا به في ظل غياب دعم عربي ودولي حقيقي.
إن النظام في سوريا هو الذي يرتكب الجرائم وهو ليس بحاجة إلى تدريب من إيران أو حزب الله كي يقوم بها، بل لعلّ العكس هو الصحيح. فالنظام السوري هو الذي درّب حزب الله وزوده بالسلاح بشهادة حسن نصر الله ذاته، والنظام هو من صدَّر من قبل القتل إلى العراق أيام الانفلات الأمني بشهادة المالكي نفسه، ولعلّ النظام السوري هو الذي نصح الإيرانيين بكيفية التعامل مع الثورة الإيرانية التي تلت انتخابات الرئاسة عام 2009 من خلال خبرته بالتــعامل مع ثورة حماة. إن الكلمة المقيتة ‘بدّك حريي’ التي ترنّ في أذن كل سوري ليس فيها أي عجمة إيرانية أو لهجة لبنانية أو عراقية بل هي سورية صافية لا تخطئها أذن أصغر طفل سوري.
إنّ إقحام إيران في الثورة السورية هو مطلب النظام السوري وليس مطلب الثورة، بل إن مصلحة الثورة هو في حضِّ إيران دومًا على أن تنأى بنفسها عن النظام وتفك الارتباط به لأنّ في ذلك مصلحتها، فالثورة منتصرة في آخر المطاف رغم فداحة التضحيات. ولا أظن أنّ إيران ستزج بكل إمكانياتها مع النظام السوري، فهي لها مصالح مثل أي دولة، فهي دولة إقليمية كبيرة ولا أظن أن تأثيرها يعتمد على استمرارية نظام الأسد، بل العكس هو الصحيح. إن ما يحافظ على بقاء النظام في سوريا إلى الآن هو ما تمده به إيران وروسيا من مدد سياسي وعسكري لوجستي، ولو انقطع هذا المدد لتهاوى النظام بسواعد السوريين وحدهم ودون الحاجة إلى أي معونة من الغرب أو غيرهم. وعكس ذلك صحيح أيضًا. فلو أن الغرب مدَّ السوريين بما يطلبونه من سلاح نوعي فإن إيران وروسيا ستمدان النظام بسلاح نوعي مقابل، والشعب السوري هو الذي سيدفع الثمن في تلك الحالة بشريًّا واقتصاديًّا من مستقبله الذي سيرُهن بعد الثورة لمصالح وأجندات دولية مختلفة.
إن مخطط إعادة تشكيل محاور القوى وتقاطعاتها في منطقة بلاد الشام والعراق، بل في وتركيا وإيران قد أصبح قاب قوسين أو أدنى بفعل الثورة السورية وحدها. وما يجري اليوم في لبنان هو إرهاصات ذلك وانعكاسه في بلد كان دومًا المرآة السياسية لكل تجاذبات محاور القوة في المنطقة وما خلفها.
لكن إعادة التشكيل هذه لابد فيها من طرف يقف على مسافة واحدة من هذه القوى العربية والتركية والفارسية، ولعل خير من يقوم بذلك اليوم هو مصر الثورة ورئيسها الدكتور محمد مرسي خاصة بعد أن أسفرت التغيرات الأخيرة خلال الأسابيع الماضية عن استقرار ثورتها وانحيازها دون لبس لحقِّ الشعب السوري في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
إن مصر الثورة اليوم ليست هي مصر مبارك، فرغم أن الشعب المصري المتعاطف مع السوريين هو نفسه لم يتغير، لكن مفاصل اتخاذ القرار قد أصبحت اليوم بيد هذا الشعب. وواضح أن القيادة المصرية تريد أن تعيد لمصر اعتبارها ودورها الرّيادي رغم وجود قوى مصرية وغير مصرية تحاول معاكسة ذلك، ولكن سنن التاريخ أكدت دوا أنه إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.
الرئيس مرسي في قمة مكّة المكرّمة طرح ما مفاده تعاون مصري سعودي تركي إيراني لحل الأزمة السورية، فقد آن الأوان حسب قوله لأن يرحل النظام السوري.
ان اجتماع هذه القوى الاقليمية الكبرى على طاولة واحدة وتعاونها لنصرة الشعب السوري وترحيل النظام هو مطلب للثورة السورية ووجود مصر والسعودية وتركيا على طاولة واحدة مع ايران للضغط عليها بقطع المدد عن النظام السوري هو ايضا مطلب للثورة السورية.
أعلم أن البعض سيحتج على طرح الرئيس مرسي ولكن على من يحتج أن يقدم البديل مرفقًا بالفاتورة البشرية لهذا البديل. الشهداء في سوريا اليوم تجاوزا الـ25 ألفًا، فهل يستطيع من يعارض الطرح المصري أن يضمن عدم ازدياد هذا العدد بل وتضاعفه؟
إن سوريا موجودة في فضاء جيوسياسي يتعايش فيه العرب والترك والفرس ولن يأتي اليوم الذي تزول فيه أي من هذه القوى حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وسوريا هي ركن من أركان هذا الفضاء وليست هامشًا فيه أو له، ويشهد على ذلك التاريخ.
إن ما ينبغي على المعارضة السورية عمله الآن يتمثل فيما يلي:
1 ـ التنسيق بين أجنحتها الثورية والعسكرية والسياسية للتوافق على حد أدنى من المطالب دون أي شق للصف أو تلاعب بالكلمات والألفاظ التي أخرت نصر الثورة وسمحت للنظام بإحداث الاختراق تلو الآخر.
2 ـ اختيار عدد معقول لا مبالغة فيه من الممثلين الحقيقيين للثورة من كل أجنحتها، اختيارًا يعتمد الكفاءة لأداء المهمة القادمة لا المحاصصة التي أثبتت فشلها في المرحلة السابقة.
3 ـ مسارعة المعارضة بعد ذلك وبشكل ‘موَحَّد’ للاتصال بالرئاسة المصرية للوقوف على تفاصيل دعوة الرئيس مرسي بل والمساهمة فيها بشكل إيجابي وفعّال لتكون حاضرة في كل التحركات التي ستتمخض عنها هذه الدعوة.
4 ـ التنسيق بين قوى الثورة السورية الإلكترونية لتصبّ جهودها على إنجاح المبادرة المصرية عبر صفحاتها على الشبكة العنكبوتية والتويتر والمواقع الإلكترونية.
5ـ التنسيق بعد ذلك بين قوى الثورة السورية والمصرية الإلكترونية للتواصل مع الشعب المصري والأمة العربية وقواها المدنية الحية بما يتيح تمتين جبهتها التي ستتعرض لمحاولات اختراق من قبل قوى النظام السوري الإلكترونية والإعلامية.
6 ـ تشكيل لجنة متابعة مشتركة بين أجنحة المعارضة السورية مهمتها:
أ- متابعة تطورات المبادرة المصرية.
ب- تشكيل قوى ضاغطة على الأطراف المشاركة في الدعوة من مصر والسعودية وتركيا و إيران.
العودة الدورية للشعب السوري لإعلامه بتطورات المبادرة المصرية وإبقاء قواه موحدة في سبيل إنجاحها.
إن مبادرة الرئيس مرسي قد تكون آخر الآمال المتبقية قبل ‘خراب البصرة’، ولا أعني ذلك مثلاً دارجًا، ولكن إن خربت سوريا فليس بعد ذلك إلا خراب البصرة.
‘ استشاري فلسطيني بمستشفى قطر لأمراض القلب
القدس العربي