مزاعم أل التعريف/ ممدوح عزام
على الرغم من أن النحو العربي يؤكّد أن النكرة هي التي تدلّ على العموم، فإن السائد في الكلام الشفوي، وفي الكتابة اليوم هو أن المعرفة قد سلخت من النكرة تلك الميزة، وراحت تستخدمها كي تخلق تعميمات وأنماطاً، باتت تخدم الفرضيات والآراء المغرضة في شتى نواحي الفكر والسياسة والثقافة والمعرفة.
ترى مثلاً أحدهم يكتب أنه لم يكن يعرف السوريين من قبل، وحين التقى بعدد منهم، اكتشف أنهم متشابهون. ثم يسعى بعد ذلك إلى اختراع صورة مناسبة تضعهم جميعاً، وتعدادهم يزيد عن العشرين مليوناً، في جيب ذهني مدبّر. فهناك من يدّعي أنهم الشعب المسالم المحب المعتدل صيفاً وشتاء، وهناك من يدّعي أنهم الشعب القاسي الغاضب الذي لا يعرف النقاش العقلاني، ولا يستطيع قبول الرأي المخالف.
ومن الذين تشملهم مزاعم أل التعريف المثقفون السوريون. فإذا كان المتحدّث معارضاً للنظام تكلّم عن انحياز “المثقف” للسلطة، ووصف الخزي والعار اللذين سيلحقان بهذا المثقف النذل. وإذا كان المعلّق موالياً، شتم “المثقف” الخائن المرتزق الذي يبيع نفسه مقابل المال، ويخون وطنه دون ضمير.
وتتحمّل “أل التعريف” المسؤولية الجنائية والأخلاقية عن مثل هذه الميول، فقد أفضت إلى تورّط آلاف السوريين أيضاً في راحة النمط المعرف بأل. خاصة حين ازدادت العداوات ذات الطابع الدموي. وهكذا صار بوسع الكلام والكتابة أحياناً أن يعمّما صوراً عن العدو الطائفي والعرقي والديني، وتصبح الصورة النمطية بعد ذلك سلاحاً يستخدم لإدانة الرأي المخالف من داخل الصنف الذي يرفض مثل ذلك التعميم، أو يساعد أولئك الذين يحتمون به.
في كتابه “الصورة الشريرة للعرب في السينما الأميركية” يقدّم جاك شاهين سرداً تفصيلياً لعشرات الأفلام التي قدّمت فيها هوليوود صورة ثابتة تجيب عن سؤال تطرحه على نفسها: من هو العربي؟ وهي صورة أسطورية يبدو فيها العربي شرّيراً ومشغولاً باختطاف الطائرات وتفجير البنايات والبشر. وقد تمكّنت هوليوود من اختراع تلك الصورة النمطية، وتثبيتها، في الخيال الأميركي، وفي العالم الذي يشاهد تلك السينما. بحيث صار “العربي” هو تلك الصورة دون أي تمييز.
وقد سُمّم سقراط ذات يوم بسبب مخالفته للآراء السائدة، ويكتب آلان دو بوتون مقدّمة ساخرة وطريفة، يقارن فيها بين سلوكه (معه مجموعات كبيرة من البشر) وبين سلوك سقراط، في كتابه “عزاءات الفلسفة”: “حين كنت أقود السيارة قرب سيارات الشرطة، كنت أضمر أمنية مضطربة أن تكون صورتي جيدة”. ويضيف “كانت أولويتي أن أُحب، لا أن أجهر بالحقيقة”.
اللافت أن لدى كثير من الناس القدرة على إزالة “أل التعريف” عن مفردات التنميط. ويمكن أن يكون لهذا أثر في زوال التعصّب، أو تخفيف أضراره. واستخدام الممحاة ممكن، ولكن قد ينبني على ذلك المحو، شعور بالقلّة والضعف ناجم عن قصور القول، أو عجزه عن ملء المعنى المقصود، أو شعور بالذعر من أن تقوم القبيلة بخلعه وإبعاده، في حين قد لا يضمن أن يكون من هم في الشاطئ الآخر قادرين على قبوله في جماعتهم.
العربي الجديد