مسألة اعتراف/ مروان قبلان
من القضايا التي لا تأخذ حيزاً من النقاش، يتناسب مع أهميتها عند الحديث عن الثورات والتغيير في العالم العربي، قضية الاعتراف (Recognition). أي الميل الطبيعي لدى الإنسان إلى الحصول على إقرارٍ من الآخرين بأنه ندّ، وأنه يستحق أن يُعامل، من ثم، بكل احترام وتقدير. إذ نميل، في الغالب الأعم، لدى محاولتنا تفسير أسباب الانفجار الذي شهده العالم العربي، في السنوات القليلة الماضية، والمرشح للاستمرار على شكل موجاتٍ تنحسر لتعود وتشتد، أخذاً في الاعتبار استمرار الأسباب الموجبة لذلك، إلى التأكيد على المطالب المتصلة بالحرية والكرامة وإعادة توزيع الثروة والسلطة بطريقة أكثر عدالة، باعتبارها عوامل مفتاحية في فهم ثورات الشعوب العربية على أنظمتها التي أنكرت عليها هذه الحقوق، لكننا نتجنّب استخدام مسألة الحق في الاعتراف، أو نغفل إثارتها، على الرغم من أنها أعم وأشمل، وهي تتضمن حكماً كل الحقوق والمطالب التي سبقت الإشارة اليها.
وعندما تبرز مسألة الاعتراف في أي نقاش، تجدنا نربطها أوتوماتيكياً بأنها حق أو مطلب خاص بكيانات ذات صفة اعتبارية، مثل الدول والهيئات والتنظيمات السياسية، فيما ننكر استخدامها بوصفها حقاً من حقوق الإنسان أيضاً. والواقع أن الدول، مهما عظم شأنها، تبقى منقوصة السيادة، إذا لم يتم الاعتراف بها، فالاعتراف هنا يعد شرطاً لازماً وضرورياً لقيام الدولة، وبدونه لا تكون هناك دولة بالمعنى السياسي والقانوني، ولا تترتب عليها، بالتالي، مجموعة الحقوق والواجبات والالتزامات التي تتمتع بها الدول في مجتمعها الدولي، بحسب ما ينص على ذلك القانونان الدولي والدبلوماسي. لكن الواقع أيضاً أنه، وكما تحتاج الدول إلى الاعتراف حتى تعيش متمتعة بكامل الحقوق والواجبات في مجتمعها، لا يمكن للأفراد أن يعيشوا من دون اعتراف بأنهم مواطنون ذوو حقوق وكرامة، وهذه مسألة كانت، وستظل، مركزيةً في كل الصراع الذي يجري اليوم في العالم العربي، فالموضوع لا يعد إذاً صراعاً على الثروة والسلطة، وإعادة توزيعهما بطريقة أكثر عدالةً فحسب، بل يتعداه إلى الحق في الاعتراف، وما يترتب عليه من معاملةٍ لائقة.
والواقع أن مسألة الاعتراف التي تغيب عن أدبياتنا، وهي من حقوق الشعوب كما هي للدول، طالما مثلت عقدة المنشار للأنظمة العربية التي تبدو مستعدةً لمناقشة كل شيء إلا مسألة الاعتراف بشعوبها مواطنين أحراراً، أنداداً، والكف من ثم عن التعامل معهم باحتقار. فمن هو محمد مرسي هذا حتى يغدو رئيساً لمصر مثلاً، ومن هم السوريون حتى يثوروا ضد أرباب نعمتهم، ومن أين صار لهم حقوق حتى يطالبوا بها، ومن أين تأتّت لهم الجرأة لفعل ذلك؟ إنه السلوك الذي اختصره معمر القذافي بسؤاله الشهير “من أنتم؟”. فالشعوب العربية بالنسبة لحكامها إما “جراثيم” أو “جرذان” أو “أفاعٍ”، أو “إرهابيون”، ويمكن أن يكونوا أي شيء إلا مواطنين أحراراً.
المفارقة أن الأنظمة العربية التي تنكر على شعوبها حقها في الاعتراف والمعاملة الكريمة، تجدها مستعدةً لفعل ما في وسعها لإرضاء الأجنبي، بما في ذلك التخلي عن كرامتها، كما فعل غير نظام عربي ذلك، لكنها غير مستعدةٍ لأن تقدم أقل من هذا بكثير لشعوبها. لا بل تجد بعضها يستعين بالأجنبي لقهر مواطنيها، ومستعدةً أن تتحول هي نفسها إلى “عبد” عند هذا الأجنبي، لقاء أن تستمر هي في استعباد شعوبها، وإلا كيف يمكن أن نفسر وجود كل هذا العدد من المليشيات الأجنبية التي غدت هي المتحكمة بمفاصل القرار في دمشق.
لا يمكن أن تقوم أي تسويةٍ في أي من صراعات العالم العربي اليوم إلا باعتراف الأنظمة القائمة بالمعارضة طرفاً ندّاً، والتعامل معها وفق ما يتطلبه ذلك. أما أن يتم التعامل مع الثوار والمعارضين باعتبارهم متمردين أخطؤوا، وعليهم أن يتوبوا ويطلبوا العفو والسماح قبل أن يعودوا إلى بيت الطاعة، فلن تكون هناك فرصة للتوصل إلى أي تسوية. لأن الاعتراف يتحول، هنا، كما كانت هذه الأنظمة تراه دوماً من اعتراف بالندّية (Recognition) إلى إقرار أو اعترافٍ بالذنب (Confession)، وهو أمر ينفي بالمطلق صفة الندية، والتسوية لا تكون إلا بين أنداد.
العربي الجديد