صفحات العالم

مسألة البادية وانهاء الجيش الحر/ سام هيلر

 

 

أصبحت بادية الشام ساحة صراع بين القوى الدولية وأجنداتها المتضاربة، في الشهور الأخيرة، ما زاد “مسألة البادية” تعقيداً من منطق السياسة الأميركية. في الأسبوع الماضي بات واضحاً أن “مسألة البادية” أكبر من أن تتحملها أميركا وحلفاؤها، فكان لا بد من التضحية بأحد المشاريع المتناقضة التي رعاها المحور الأميركي. فقررت تلك القوى، على ما يبدو، إنهاء مشروع الجيش السوري الحر. وكان الجيش الحر في البادية تقريباً آخر تجلٍ للجيش الحر لم يتم تقليم أظافره وتحييده عن قتال النظام السوري، ولكن حتى “حرّ” البادية لم يسلم من الحسابات السياسية وما يشبه الإجماع الدولي على “تبريد” الحرب السورية، واجتياز “الثورة” إلى ما بعدها.

الولايات المتحدة كانت تستثمر في مشروعين أساسيين، بشكل متوازٍ في البادية؛ الأول، فصيلا الجيش الحر “جيش أسود الشرقية” و”قوات الشهيد أحمد العبدو”، واللذان دعمتهما غرفة “الموك” الاستخباراتية، والتي تشارك فيها الـ”سي آي أيه” مع غيرها الوكالات. وبدعم “الموك”، قاتل فصيلا الجيش الحر تنظيم “الدولة” في البادية والقلمون، ومن ثم الجيش السوري وقوى رديفة له منها مليشيات مدعومة من إيران. وسعى الفصيلان لربط صحراء الحماد بالقلمون، لجعل تلك المنطقة نقطة انطلاق لهجوم على مناطق التنظيم في ديرالزور. أما المشروع الثاني، فكان برنامج وزارة الدفاع الأميركية “بنتاغون” و”التحالف الدولي” لتدريب قوة عربية مستقلة عن “قوات سوريا الديموقراطية” تقاتل تنظيم “الدولة”، حصراً، في الصحارى، وتنطلق من البادية من الناحية الشرقية. هذا بالإضافة لفصيل “جيش أحرار العشائر” الذي رعاه الأردن ليتسلم أمن مخيم الركبان وبعض المناطق الحدودية.

لم ينسجم المشروعان، ما ساهم في تشتت قوى الدير، وقوّض فرص تحرير الدير من التنظيم من قبل قوات المعارضة السورية. كما وكان منطق المشروعين يتعلق بانشغال النظام غربي سوريا، وصرف نظره عن الشرق. إنزال الستار فعلاً على معارضة البادية كان بفعل اتفاقيات “خفض التصعيد” التي أبرمت في أستانة في أيار/مايو، والتي جمدت الجبهات الغربية وسمحت للنظام وحلفائه بالتقدم السريع نحو الشرقية. فجأة أحبطت القوات الموالية للنظام مشروع الجيش الحر في القلمون، ومن ثم استمرت بالتقدم لتحاصر عناصر “التحالف” والقوى المدربة في معسكر التنف وتقطع عليها طريق الدير.

وكان الطرفان الأميركي والروسي، قد توصلا لاتفاق هش لـ”عدم التعارض” أو “deconfliction” ليضَمَن أمن التنف داخل دائرة نصف قطرها 55 كيلومتراً. ومع ذلك كانت مهمة “التحالف” في التنف قد انتهت فعلياً، حيث انعزلت القوات عن آخر وجود لتنظيم “الدولة” في الشرقية. فبدأت تدور أسئلة حول جدوى البقاء في التنف في ظل حصاره. مع أن بعض “الصقور” روجوا لمواجهة القوى الموالية لإيران على أطراف التنف منعاً لحصول إيران على “الجسر البري” من أراضيها للبنان، فتم تهميشهم، وآثر صناع القرار الالتزام بالمهمة المحددة لدى “التحالف” وحماية قواته في التنف.

وفي غضون ذلك، استمر الجيش الحر المدعوم من “الموك” في قتاله للنظام، بالرغم من أن موازين السياسة الإقليمية والدولية قد بدأت بالتقلب. فقد تم قطع الدعم الأميركي عن أغلب فصائل الجيش الحر، عدا بعض فصائل الجنوب، ومنها فصائل البادية، ما أشار إلى تخلي أميركا الفعلي وغير المعلن عن هدف إسقاط النظام أو حتى الضغط عليه بالوكالة، فيما توجه الأردن نحو التطبيع المحدود مع نظام الأسد وإعادة العلاقات التجارية. فكان استمرار الجيش الحر لمقاومته في البادية يتناقض مع كل ذلك، كما هدد باتفاق “عدم التعارض” الحامي لمعسكر التنف و”المنطقة المحرّمة” المحيطة به، نظراً للوجود الجزئي للجيش الحر داخل “المنطقة المحرمة” والعلاقات المتداخلة بين الفصائل والأهالي النازحين في مخيم الركبان ضمن مسافة الـ55 كيلومتراً.

كان لدى بعض داعمي الجيش الحر توجه لمساندة “أسود الشرقية” و”الشهيد أحمد العبدو” في معركة طويلة ضد قوات النظام وضد المليشيات المدعومة إيرانياً من أجل استنزاف إيران وإبعاد وكلائها عن الحدود الإيرانية. ومع ذلك، فلقد قررت “الموك” في النهاية لجم الجيش الحر وسحبه للأردن، تمهيداً، كما قالت في رسالتها المسرّبة إلى الفصيلين، لمباحثات مع الطرف الروسي على اتفاق “خفض تصعيد” أو “de-escalation” يشمل البادية. كما وحثّت “الموك” الفصيلين على نقل أهاليهم من مخيم الحدالات خارج “المنطقة المحرمة” إلى مخيم الركبان داخلها، والذي يتمتع بحماية “التحالف”. فأعربت “قوات الشهيد أحمد العبدو” عن موافقتها المبدئية والمشروطة، في حين رفض “أسود الشرقية” ذلك، وبقي كلاهما يقاتلان في البادية رغم الضغوط، حتى تاريخ كتابة هذا المقال.

إلى الآن، لم يتضح السبب الأساسي للقرار الدولي بإنهاء الجيش الحر في البادية؛ إن كان يتعلق بالتنف أو بإعادة التموضع السياسي التي يقوم بها الأردن أو بإجراءاته لحفظ أمن حدوده. ولكنه على ما يبدو ليس إلا الخطوة الأولى نحو طي الصفحة لهذا الجيب المعارض كلياً. إذ تتقلص المساحة المحررة من البادية، إلى حدود “المنطقة المحرّمة” حول التنف، والتي تقوم بدورها على وجود قوات “التحالف” في التنف. لن يدوم ذلك الوجود للأبد، حيث انتهت مهمة “التحالف” في قتال تنظيم “الدولة” في محيط التنف.

وفقاً لمصادر مطلعة، فمن غير المرجح أن تتخلى أميركا عن التنف قريباً، وهذا لأسباب متعددة، منها: رغبة الأميركيين في الحفاظ على القوات المدربة من قبل “البنتاغون” ريثما تتم إعادة نشرها لمهمة جديدة؛ التوجه لمبادلة هذه المنطقة الإستراتيجية التي تقع على أوتوستراد دمشق-بغداد مقابل مكاسب أخرى؛ ورفض الأميركيين الرضوخ الواضح والظاهر لضغوط روسيا وحلفائها من محور النظام السوري؛ وضرورة الوصول الى حل يؤمن سلامة أهالي مخيم الركبان، الذي بات يحتوي أيضاً سكان الحدالات النازحين من جديد.

ومع ذلك، لا يعقل أن يتمسك الأميركيون بهذه المنطقة إلى الأبد، لمجرد منع النظام وحليفه الإيراني من الوصول لمعبر التنف. لمنطقة التنف أهمية وقيمة إستراتيجية، ولكن قيمتها بالنسبة لأميركا تقع في مبادلتها لقاء مقابل آخر، لا التشبث بها لفترة لا محدودة.

فإذا سلمنا أن أميركا و”التحالف” سينسحبون من التنف، مع الوقت، فمن الأمور التي تبشّر بالخير لأهالي جيب البادية أن وضع أهالي مخيم الركبان هو ضمن حسابات مخططي الحكومة الأميركية بفروعها المختلفة. فاهتمام الأميركيين بالركبان وفهمهم لعلاقة المخيم بفصائل البادية، ووجود “التحالف” في التنف، يبدو أنه قد يُترجَم الى حل لأهالي المخيم، ولو كان مخيم الركبان حتى الآن حجر عثرة أمام حل متعدد الأبعاد لعقدة البادية.

أما فصائل البادية، فالعد التنازلي لـ”المنطقة المحرّمة” يضعها أمام خيارات عسيرة. بالنسبة لمقاتلي الدير ضمن صفوف “مغاوير الثورة” و”أسود الشرقية”، بات واضحاً أنهم لن يصلوا إلى بيوتهم في الدير إلا إذا قبلوا بأحد أمرين: إما التوصل لاتفاق مع “قسد” يفرض عليهم التنازل عن الاستقلالية الفصائلية والقتال تحت إمرة “قسد”، أو الانضمام لقوات النظام. أما مقاتلو ريف دمشق والقلمون ضمن “الشهيد أحمد العبدو” والفصائل “الديرية” ذاتها، فالأمر أصعب من ذلك. حيث استعاد النظام مناطقهم، فإذا أرادوا العودة لأهاليهم، ليس بيدهم شيء إلا الاستجابة للنداءات الروسية بالعودة إلى مناطقهم و”المصالحة” أو الغربة الدائمة عن أهاليهم.

وإذا آثرت الفصائل، المحلية والديرية منها، البقاء في صحاري البادية والاستمرار في قتال النظام، فسوف يقاتلون لوحدهم، من دون داعم ولا خط إمداد. ولا يمكن بأية حال أن يصمدوا في وجه النظام وحلفائه المستفيدين من ركود المناطق الغربية ليصبوا كل نيرانهم على البادية.

فعلياً، بدأ بعض أهالي المخيمين بالعودة تدريجياً إلى مناطقهم الواقعة تحت سيطرة النظام، مجازفين بخطر السوق لـ”الخدمة الإجبارية” والاعتقال التعسفي. ولكن هذا لا يعتبر حلاً بالنسبة لجميع قاطني الركبان. وبالتالي، تُعلّق الآمال أكثر على كاهل أميركا و”التحالف”، الذين لن يقبلوا على ما يبدو ترك أهالي الركبان، مع خروجهم من التنف. ومن هنا يكمن الدور لفصائل البادية كذلك، ومنها فصائل “الموك” و”البنتاغون”، والتي قد يكون بإمكانها مبادلة إعادة نشرها وقتالها تحت مظلة “قسد” مقابل حل لأهاليهم في الركبان ونقلهم إلى مكان آمن قابل للحياة، على عكس هذه الصحراء العقيمة.

وإلا، فالبادية مفتوحة أمام الجيش الحر إذا أصر على القتال لآخر رجل لديه، وفي الحالتين، ستنتهي معركة البادية. إنها معركة تجاوزتها السياسة الدولية، وإلتفت عليها، فتشكل توافق دولي على الحد منها. وفي وجه توافق كهذا،قد لا يمكن للجيش الحر أن يقاوم الى الأبد.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى