مساهمة في علوم الإنسان» لإيريك فروم.. تدمير الحياة
هيفاء بيطار
لا يحتاج إيريك فروم إلى تعريف، فهو من أهم فلاسفة القرن العشرين، الذي أضاء جوانب معتمة وغامضة في النفس البشرية، وبالتالي وضع للإنسان حجر الأساس في بناء حياة كريمة وصحة نفسية حقيقية وليست زائفة.
يشدنا العنوان (الصحة النفسية للمجتمع المعاصر) فما أن نقرأه حتى ننتبه إلى أن صحتنا النفسية في خطر كبير، الكتاب عبارة عن محاضرات قيمة لإيريك فروم، وسأتناول أهم ما قدمه لنا الكاتب…
يكشف إيريك فروم أخطر مشكلة تواجه إنساننا المعاصر وهي الاغتراب، والمقصود بالاغتراب الذاتي هو اغترابنا عن أنفسنا، عن مشاعرنا الخاصة وعن الناس والمستقبل، ويبين مساوئ الأنظمة الرأسمالية التي حولت الإنسان إلى سلعة، فأصبح الإنسان يشعر أن قيمته ليست تابعة لشخصيته وفرادته بل تحدد قيمته بمدى إنتاجه، بالسلعة التي ينتجها.
إن إفقار الإنسان ومسخ إنسانيته وإحساسه بذاته وجوهره من أجل إغناء الشيء الذي يصنعه هو الذي يصنع جوهر الاغتراب. وهكذا فإن الأنظمة الرأسمالية تخلق إنساناً مغترباً عن ذاته ومحيطه، خائفاً، ويعتمد على الأشياء والسلع، والبيروقراطيات والدولة، والقادة والزعماء، وكل تلك الأشياء لها الوظيفة ذاتها في منح الإنسان المغترب معنى لهويته لأنه على تواصل مع نفسه فقط عبر الاستسلام لقوة أكبر منه، أو شخصية عظيمة أو مؤسسة كبيرة تمنحه الوهم بأنه على تواصل مع مقدراته الشخصية.
لكن الحقيقة أن إنسان اليوم يشعر بفراغ عميق واكتئاب وكآبة، وأصبح الناس يتبادلون الكلمات من دون أن يتشاركوا أية حقيقة يتحدثون عنها، إنهم يتبادلون الكلام لتغطية الفراغ الموجود فيهم، ولا يشعرون بعد انتهائهم من المحادثة أنهم تشاركوا شيئاً.
لقد فقد إنسان اليوم إحساسه بالتواصل مع ذاته ومع الآخر ولم يبقَ من حقيقة في حياته سوى حقيقة العمل، وإنتاج السلعة التي هي تحدد قيمته.
يبين إيريك فروم أن إنساننا المعاصر لديه خوف عميق من حقيقة وجوده الإنساني، من التماس المباشر مع نفسه وأعماقه، إنه عاجز عن التواصل مع مشاعره الحقيقية ومع سعادته وحزنه وخوفه، إنه على تواصل مع قطاع صغير في نفسه، ويغرق نفسه في الروتين، وخطورة الروتين أنه يقوم بحجب وشل، وفي النهاية قتل الجانب الروحي في الإنسان، هذا الجانب الأهم في الحياة وهو الروح، والقدرة على الحب.
وبسبب هذا الخواء الوجودي العميق لإنساننا المعاصر وإحساسه أنه ليس سوى سلعة تحدد قيمتها الأنظمة الرأسمالية، وبسبب تعطش روحه لقيم وإيمان، فإنه ينقاد بسهولة إلى بدع ٍ خطيرة، ويذكر فروم أخطرها، وهي الكنيسة السينتولوجية، وكتابها الرئيسي Dianetics الذي ألفه رون هوبارد عام 1950، وهذا الكتاب مجنون بالمطلق (كما يقول فروم) وهو محور عبادة الأغبياء والأذكياء على السواء، وببساطة السينتولوجي بدعة، آمن بها كثير من الناس بسبب حاجتهم إلى شيء يؤمنون به حتى لو كان عبثاً، أي أن السينتولوجي يؤسس لأمل لا عقلاني، لكن الإنسان لا يستطيع أن يعيش من دون أمل أو إيمان حتى لو كان هذا الأمل وهماً ونفاقاً.
وأخطر مظاهر الاغتراب هو التسليم بالقدر، وإحساس الإنسان أنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً حيال الحياة، وبأن الحياة يجب أن تستمر وأن تمضي كما هي، وبأنه يقبل القدر طواعية شاعراً أن لا أمل له في الحياة، فهو خائف، سلبي ومحبط.
والشخص الخائف هو عدواني بالضرورة، لكن كثيراً ما يضطر إلى كبت عدوانيته. إن فظاعة الأنظمة الرأسمالية أن إنسان اليوم صار لا مبالياً ويفتقر للاهتمام ويحس أنه لا يعرف كيف يختار بين الحياة والموت، ولا يعرف ما المغزى والمعنى والهدف من الحياة، إنسان اليوم ضجر في أعماقه، يشعر أن حياته لا معنى لها.
لكن الفصل الذي أدهشني في الكتاب هو تحليل إريك فروم لظاهرة الرغبة في مضاجعة الموتى، أو ما يسمى في علم النفس بالعدوانية الخبيثة، والتي تعني الانجذاب إلى الموت أو حب الموت.
وظاهرة الرغبة في مضاجعة الموتى منتشرة كثيراً، وهي تعني أن الإنسان ينجذب إلى الموت بينما هو حي! والسبب الحقيقي لمضاجعة الموتى هو التدمير الكامل وليس الحياة، وسببه فشل الإنسان في تطوير قواه الكامنة الأساسية، أي عندما يفشل في الارتباط بالحياة كشيء مثير للاهتمام ومُبهج، فيصبح للموت والدمار والتفسخ جاذبية منحرفة، ويسقط الإنسان في اليأس الصامت وفي العنف وفي إدمان المخدرات.
إذاً عندما يفشل الإنسان في تطوير ارتباطه بالحياة أو قدرته على الحب، وإذا بقيت هذه الأمور غير مكتملة، عندئذٍ يصبح الإنسان عرضة لتطوير نوع آخر من الارتباط وهو تدمير الحياة، وبهذا الفعل يتعالى على الحياة أيضاً لأن في تدمير الحياة تعالياً بقدر الذي في خلقِها.
وببراعة في التحليل يوصلنا فروم إلى كارثة السلاح النووي، الذي هو الشكل الأمثل للرغبة التدميرية للحياة وللعدوانية الخبيثة، السلاح النووي الذي سيقود إلى دمار البشرية…
وتعمل الرأسمالية مستغلة الدين على ملء الإنسان بشعور دائم بالخطيئة والإثم، عندها سيكون مكبلاً وعاجزاً أن يكون حراً، عن أن يكون نفسه، لأن نفسه مخرّبة… إنه جزء من آلة، إن السلعة التي يصنعها تراقبه وتعمل ضده.
إن تعريف الضجر، حسب فروم، بأنه أسوأ الشرور التي تحصل للإنسان، وبأن الحزن والمأساة أسهل احتمالاً من الضجر الذي هو تعبير عميق عن الانفصال عن العالم وعن المقدرة على الحب.
إنسان اليوم يعيش في خواء، لذلك هو غير آمن، ومشاعره تتدفق لكنها مشاعر فارغة، لأن هناك حاجة إلى الشعور، لكن إنسان اليوم لا يعرف كيف يربط مشاعره بالآخر، لا يعرف كيف يُحب.
وبعد يمكنني تلخيص هذا الكتاب العظيم بعبارة من الإنجيل: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بالروح…
ومهما استطاعت الأنظمة الرأسمالية إنشاء ترسانة من الأهداف والإنجازات وترسيخ القيم لمعنى الحياة المعاصرة، وتأليه الإنتاج والربح والمتع، فإن كل ذلك سيجر إلى مزيد من الألم والخواء والدمار للروح الإنسانية، لأن جوهر الوجود الإنساني هو الحب والكرامة والحرية والإحساس بالقيمة… وإلا هُددت البشرية في جوهرها بالعدوانية واليأس والضجر، انتهاء بكارثة السلاح النووي الذي يتربع على عرش الاغتراب الإنساني عن ذاته وأصالته.
([) «مساهمة في علوم الانسان، الصحة النفسية للمجتمع المعاصر»، إيريك فروم، ترجمة محمد حبيب، إصدار دار الحوار، دمشق.
السفير