مسبِّع أوطان
لقمان ديركي
سواء بدأت سكرتنا ظهراً أو مساءً فإن صديقي العراقي الفنان المسرحي واللاجئ فاروق يتذكر العراق لسبب من الأسباب ويبدأ بمونولوجه التراجيدي المترافق مع البكاء الحقيقي: بغداد.. شارع الرشيد.. شارع السعدون.. مقهى المعقَّدين..هيج إسمه.. زبانية النظام سمّوه بهذا الإسم لأن المثقفين يقعدون فيه. اشتقت لبغداد.. لشارع النهر.. لمقهى البرلمان.. لبار أبو نواس.. لمكتبة بنّاي.. للمقهى البرازيلي.. لمقهى أم كلثوم.. آاااخ. بغداااد.. بغدااد.. دجلة.. باب المعظَّم… إلخ من أسماء أماكن وشوارع وشعراء وفنانين مغمورين ومشهورين، شهداء ومساجين، وكنت أتأثر أيما تأثر ببكاء فاروق. بل وكنت أجاريه بالبكاء أحياناً، وكان كافياً أن تذكر كلمة مثل (دجلة) بشكل عرضي حتى يستنفر ويبدأ بهذيانه النوستالجي الجارف.
ولم يكن فاروق ليهتم بالحضور ومزاجهم، فقد كان يهمس لي بمونولوجه همساً إذا لم يكن الجوّ مناسباً للجهار بدعوته إلى البكاء هذه، وكنت الضحية الدائمة له في كل الأحوال، سواء كنا لوحدنا، أو بصحبة أصدقاء آخرين. فإذا ما كانوا عراقيين فإن مناحة كانت لتُفتَح على الطاولة، خاصة إذا ما تشجع الآخرون وأدلوا بدلوهم من الدموع معه، ويكرع العراقي القادم من هولندا كأسه ويقول مع نظرة ساهمة إلى أفق ما: دمَّرني المنفى. فيردّد آخر قادم من الدنمارك: وآني هَم دمرتني المنافي. ويتابع فاروق استنهاض عواطفهم بلذة خفية: تتذكرون لما كنا نسهر بأبو نواس وبعدين بالليل نروح ناكل باجة.. يم الجندي المجهول. باجة الحاثي؟ ويجهش الجميع بالبكاء ويردّدون اسم مطعم الباجة.. باجة الحاثي.. إي إي. والباجة بحرف الـ p وحرف الـ tchهي أكلة توازي الرؤوس والمقادم والسجقات عندنا في سوريا، وتنهال الذكريات على فاروق، وينهال بها فاروق علينا حتى تصبح كؤوس العرق مكسورة بالدموع، وتصبح الطاولة مرتعاً للمناديل المبللة بما يهطل من العيون والأنوف. عندها ينتبه فاروق إلى المأساة فيحاول تلطيف الجو بأغنية عراقية، لكن الكارثة تكبر، فلا أغنية عراقية غير حزينة، حتى أغنية إمبراطور الحزن ياس خضر (وداعاً يا حزن) بتبَّكي الحجر، قال وداعاً يا حزن قال؟!!!!
هاجر فاروق من سوريا إلى نيوزيلندا بعد أن ودَّعته لعشر مرات، فكلما أودِّعه على أساس أن طائرته ستقلع في الغد، ألمحه في مقهى الروضة في الصباح: تأجّل الموعد، وهكذا إلى أن سافر بعد عشر سهرات وداع جفت فيها كل آبار الدموع في عيوني، وبقيتُ عصياً على البكاء من يومها.
لم أتواصل مع فاروق لسبب ما، حتى وصلتُ إلى كردستان العراق قادماً من دمشق التي تعيش مأساتها الآن. رنّ موبايلي العراقي وأنا في أربيل، فاروق على الخط، جاء من نيوزيلندا في زيارة طويلة. خرجنا إلى السهرة وأنا أفكر بأن دوري أتى كي أدلق حنيني إلى دمشق على رأس فاروق. أنا في المنفى الآن، أنا الغريب، أنا من سيحنُّ إلى الوطن أيَّما حنين، وسيشتاق إلى شوارعه وباراته أيّما اشتياق.
جلسنا. شربنا الكأس الأول وكرعنا الثاني على أنغام أخبار فلان وعلتان من الأصدقاء والمعارف. وبعد أن كرع فاروق الكأس الثالث نظر إلي بعينين مليئتين بالدموع المتحفزة للانطلاق وقال مجهشاً: الشام.. شارع العابد.. مقهى الروضة.. بار فريدي.. مطعم اسكندرون.. الصالحية ..اللاتيرنا.. لورانس الجميل.. أبو شاكر بياع العصير.. شارع 29 أيار.. سينما السفراء.. مسرح القباني.. ساحة النجمة .. دامر.. مجدولين.. الجندول.. فندق أمية.. ساحة يوسف العظمة.. مطعم الريّس.. فندق الشام.. مسرح الحمرا.. الشيخ محي الدين.. بوز الجدي.. باب توما.. مرمر.. باب شرقي.. أبو جورج.. العفيف.. نادي الصحفيين.. الرواق.. الميدان.. مطعم المحبة.. مطعم أبوهيثم.. المرجة.. محطة الحجاز.. شارع بغداد.. مطعم الديرية.. الشااام.. الشاااام. ثم بدأ يدندن: يا مال الشام يالله يا مالي..طال المطال يا حلوة تعالي. وأجهشتُ بالبكاء.
المدن