صفحات سورية

مستقبل الأسلمة والليبرالية بعد بشار

غسان الإمام

أميركا هي ربع الساعة الأخير في حياة نظام بشار. سواء كان الفائز في السباق الرئاسي باراك أوباما، أو ميت رومني، فسيجد نفسه، على الأغلب، مضطرا للتدخل العسكري، تحت ضغط الرأي العام العالمي، وحلفائه الأوروبيين المجاورين لمسرح الأحداث، في البحيرة المتوسطية.

تقتضي اللعبة السورية أن يمنح الساحر الإبراهيمي ضوءه الأخضر لبشار للقضاء على الثورة، خلال الشهرين الانتخابيين الأخيرين في أميركا. لكن من المحتم على بشار أن يخسر الرهان على قتل أكثر من مائتي سوري يوميا. وهو أصلا فضل الانتحار السياسي والعسكري، عندما راهن على الحل الأمني. فأخفق في استعادة الأرض التي خسرها. وأخفق في استعادة حلب.

يبقى رهان بشار الأخير على طائراته (600 طائرة نفاثة + 90 طائرة مروحية). لكن قتل شعبه، على هذه الصورة الاستفزازية، وضعه خارج لعبة التسوية المعقدة. وها هو بوتين ذاهب إلى مجلس الأمن، بتسوية لعل وعسى، تنقذ لروسيا ما يمكن إنقاذه: الإبقاء على الطائفة كشريك في نظام الحكم، من دون «حرافيشها» الأمنية والعسكرية، والاستغناء عن العائلة الحاكمة، بما فيها ابنها المدلل.

لماذا يتحتم على بشار أن يخرج من اللعبة؟ لأن طول قامة هذا الفتى الغشيم والمتغطرس، لا يعني أنه يملك حيلة أبيه في ركوب الحصانين العربي والفارسي معا عشرين سنة (1980 / 2000). جعل الابن نفسه ونظامه مطيه طيعة لإيران، بحيث لم يعد عرب الخليج والمشرق يطيقون حاكما يحكم، بمنطقه الطائفي، مجتمعا مليونيا من السنة. وهم يجدون في انتحاره السياسي فرصة لا تفوت لاستعادة سوريا منه، ومن إيران، بوجه عربي مسالم لأشقائها وجيرانها.

ثم لماذا يتحتم على أميركا وأوروبا التدخل العسكري؟ لأنه أولا وأخيرا، بات مطلبا شعبيا سوريا أسقط ذريعة الممانعة الزائفة، والمقاومة الصامتة. الهدف وضع حد للقتل الجماعي لألوف المدنيين السوريين الأبرياء. ومن جهة ثانية، فالتدخل لن يكون احتلالا جاثما على الأرض يفقد سوريا استقلالها وسيادتها، إنما سيفرض حظرا جويا لا يكلف المتدخلين خسائر تذكر.

هذا عن ربع الساعة الأخير، لكن ماذا عن مستقبل سوريا، بعد اختفاء بشار؟ المستقبل غامض. استقراء الواقع والأحداث ينبئ بأن سوريا لن تعرف هدوءا واستقرارا سريعين، نتيجة للدمار النفسي والعمراني الذي خلفه المختفي وراءه. وبسبب ظهور قوى سياسية. دينية. عسكرية، غير محددة الاتجاهات والأهداف.

ما هي هذه القوى؟ أستطيع أن أدرج هذه القوى في مجموعتين أساسيتين: قوى الإسلام السياسي والعسكري. والقوى الليبرالية. الإسلام العسكري يتشكل أصلا من فصائل «الجيش السوري الحر» المنشقة عن الجيش النظامي، ومن التنظيمات القروية. والمحلية. والعشيرية. وهو إسلام شديد الشبه بالإسلام السني المدني المحافظ الذي يصوت في الانتخابات لليمين السياسي والإخواني.

أود أن أميز، بين فصائل الإسلام العسكري، فصيلة «الإسلام القروي» التي لعبت الدور الأبرز في الثورة الريفية ثم احتلت المدن، وخاصة حلب. وحمص. ويمكن إلحاق الإسلام العشيري (شبه البدوي) بالإسلام القروي. وهو يكاد أن ينتهي من تحرير المنطقة الشرقية الممتدة من الفرات وبادية الشام، إلى الحدود العراقية، بفضل دعم «قرابته» السنية في محافظة الأنبار العراقية.

كانت انشقاقات المجندين السنة رديفة لقوى الإسلامين القروي والعسكري (الجيش الحر)، بيد أنها لم تصل، بعد، إلى التوسع المنشود، لفرط القوى النظامية المنهكة والمستنزفة. وذلك بسبب الإعدامات الميدانية، وبسبب عدم قدرة الدعم الخليجي على توفير مرتبات ثابتة للمنشقين وأسرهم الفقيرة.

أمام هزيمة القوات النظامية برا، تم اللجوء إلى الطيران في قصف المدنيين، لإيقاع الضغينة بينهم وبين قوى الإسلام القروي التي اجتاحت المدن، ولم تتمكن من توفير الحماية لأهلها، لأنها لا تملك سلاحا مضادا للطيران، على الرغم من بسالتها في قتال الكر والفر.

هل يملك العقيد رياض الأسعد طموحا سياسيا؟ من البديهي أنه يملك. فقد كان أول المنشقين. غير أن نقطة الضعف الأساسية عنده، هي بقاؤه في إقليم هاتاي التركي (الإسكندرون السورية سابقا)، بدلا من أن يقود جنوده في الميدان. وقد ضايقه ظهور تنظيم عسكري جديد يضم ضباطا منشقين أرفع منه رتبة. ولا يعرف شيء بعد عن هوية التنظيم الجديد، وما إذا كان يملك قوة فاعلة في ميدان القتال.

لا يمكن الاستهانة بقوة «الإسلام الإخواني» المدعوم قَطَريا وتركيا. الإخوان لديهم قوى مقاتلة متفرقة في أنحاء كثيرة. ولديهم قاعدة شعبية (انتخابية). وقد يعتمدون على قاعدة العقيد الأسعد العسكرية، في ملء الفراغ، والاستيلاء على السلطة.

غير أن قيادة الإخوان الحالية (حموية) أشد تزمتا من قيادة علي البيانوني الحلبية السابقة. ولا يمكن تشبيهها بليبرالية الإسلام التركي، الأمر الذي قد يعرض أي نظام إخواني في سوريا، إلى متاعب أكبر من تلك التي تواجهها الإسلامات شبه الليبرالية الحاكمة حاليا في مصر. تونس. المغرب.

هل للإسلام «القاعدي» المتسلل على صعيد فردي دور مستقبلي في سوريا؟ كم أتمنى على رجال الأعمال الخليجيين أن يوفروا نقودهم. «القاعدة» لا تملك قاعدة شعبية في سوريا. وشعارات القاعديين المتسللين المتزمتة باتت تشكل عائقا أمام تسليح الغرب للثورة السورية، بسلاح مضاد للطيران.

سوريا ليست العراق. وليست بحاجة إلى ثوار. لديها منهم ما يكفي. بل وحتى لمواجهة تدخل ميليشيات حسن حزب الله وحرس خامنه ئي الثوري. وإذا كان من دور للسلفية السورية النائمة، فهو التوبة عن التكفير. وعن «مجاهدة» المجتمع «الجاهلي». والأحرى بها الاقتداء بالسلفية المصرية التي راهنت على الإسلام السلمي.

عسكرة الانتفاضة السورية، وتحولها إلى ثورة، بددا آمال المعارضة الليبرالية السورية في الداخل والخارج، في كسب السباق (الأولمبي) للإمساك بالسلطة. السلاح هو الذي سوف يتكلم في سوريا ما بعد الأسد. وإذا كان من دور لها فهو التمسك بالديمقراطية، لهدهدة طموحات العسكريين المنتصرين، وخاصة أن لهؤلاء شكوكهم في ليبرالية الخارج، لعلاقتها بالدول التي احتضنتها، ثم اكتشفت أن من الأفضل لها الاتصال بثوار الداخل مباشرة.

قدحت المعارضات السياسية والعسكرية زناد الفكر والذهن، لإنتاج «خطط طريق» للمستقبل، ناسية أن سوريا بعد اختفاء بشار، لن تكون السويد. أو سويسرا، لتتقبل دساتير وقوانين جاهزة الصنع، لا علاقة لها بما يجري على الأرض، وناسية أن سوريا 18 دينا. ومذهبا. وطائفة، ربما تتوق إلى استعادة التعايش السلمي التاريخي بينها، قبل قراءة اجتهادات رومانسية.

وأنا أيضا تحدثت عن مستقبل الأسلمة والليبرالية. ونسيت أن أتحدث عن المسيحيين. الأكراد. الإسماعيليين. العلويين. الدروز. اليزيديين. وعن الجولان. وإيران. وعن مصير الطبقة البورجوازية العلوية / السنية التي اغتنت تحت مزراب الأب والابن. ونسيت واجبها إزاء عشرين مليون سوري انتقلوا من مزراب الفقر، إلى تحت مزراب القصف المنهمر.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى