صفحات الرأي

مستقبل الثورات: مخاوف وآفاق


د.خالد الحروب

الذين توقعوا أو لا يزالون يتوقعون أن تتحول الأمور في بلدان الثورات إلى جنات عدن بين عشية وضحاها كانوا ولا يزالون غارقين في الوهم. فالفساد والاستبداد اللذان دمرا تلك البلدان على مدار عدة عقود لا يمكن إصلاح آثارهما في وقت قصير. والشعوب نفسها التي حُرمت من الحرية والتعايش المشترك على مبدأ الندية وليس فوقية شريحة واستبدادها ببقية الشرائح تحتاج هي الأخرى زمناً لا غنى عنه كي تتقن ممارسة الحرية من دون اعتداء على الآخرين ومن دون الانزلاق إلى مهاوي استبداد جديد. صحيح أن لحظة “ميدان التحرير” ولحظات الميادين الأخرى مثلت التتويج المثالي لالتفاف الشعوب حول بعضها وتضامنها وإسقاطها للدكتاتورية. لكن تلك اللحظة لا تستديم كونها مغرقة في المثالية. روعتها تكمن في قدرتها الخارقة على توحيد الشعب على هدف مرحلي واحد هو إسقاط النظام. وبعد سقوطه يتلاشى ذلك التلاحم وتعود التنافسات الطبيعية بين المجموعات المختلفة للظهور وتطبع المشهد. بل أكثر من ذلك، تأخذ هذه التنافسات والصراع بين المجموعات والأحزاب المختلفة أشكالاً أكثر حدة لأنها تتم الآن في مناخ الحرية وليس القمع. وهذا كله شيء طبيعي، لكنه بالنسبة للمجموع العام من الرأي العام محبط ومربك ومحير ومثير للخوف على الحاضر والمستقبل، ويدفع جزءاً من الرأي العام للترحم على أيام المستبد حيث كانت الحياة “مستقرة”! “مستقرة”، نعم لكنه كان استقرار الاستبداد وليس استقرار الحرية، أو “استقرار القبور” باستعارة توصيف صادق جلال العظم.

الحاضر المباشر لما بعد الثورة هو الارتباك والفوضى المؤقتة. الإقرار بهذا يخفض من سقف التوقعات ويعقلن فهم التغيرات السياسية والاجتماعية الحادة ويضعها في إطار التحول التاريخي طويل الأمد وليس انتظار النتائج يوماً بيوم. ولهذا فالأمر بالغ الأهمية في فهم واستيعاب حاضر الثورات العربية هو موضعتها في سياق التحولات التاريخية العريضة، والانفكاك من اللحظة الراهنة وأسر التعثرات والتخوفات العديدة والتي يضخمها حلفاء الاستبداد المنقضي أو الذي ما زال قائماً، ويبثون الخوف عند الناس كي ينحازوا لـ”استقرار الاستبداد” مرة أخرى.

تسببت عقود الاستبداد الطويلة في توليد طبقات من الفساد المريع في مجتمعاتنا وحرمتها من التطور الطبيعي ومواجهة واقعها ومشكلاتها وجهاً لوجه. كانت الآلية الوحيدة للاستبداد في حل المعضلات هي كنسها وإخفاؤها تحت السطح والتظاهر بأن كل الأمور على ما يرام. ليس هناك شعب يتمتع بهذه الخدعة الكبرى والتي مفادها أن “الأمور على ما يرام”. تاريخ الاجتماع البشري والإنساني قائم على أن “الأمور ليست على ما يُرام”، وأن سيل المشكلات التي يواجهها البشر لا ينقطع. وتعريف السياسة يأتي من أنها الآلية المُستديمة التي تحاول حل ما يستجد من مشكلات أولاً بأول. طبعاً لن تُحل كل مشكلات البشر وإلا لتحولت الأرض إلى جنة مثالية. لكن السياسة الناجحة هي تلك التي تعمل على تفكيك أكبر المشكلات وأخطرها على أمن المجتمعات وتعايشها المشترك، وتحقق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية والكرامة والمساواة.

الهدف الأول للنظام الدكتاتوري هو الحفاظ على نفسه وتأمين استمراره في الحكم، وليس المواجهة المباشرة مع المشكلات وحلها أولا بأول. وما يتم على مدار حكم الاستبداد هو تراكم تلك المشكلات ودخولها حقباً من التسويف الطويل الذي يأتي على البنية التحتية للشعوب والمجتمعات، ويعمل على مفاقمة المعضلات الكبرى وتجذيرها. هذا ما نراه الآن في عدد من الحالات حيث تنفجر القبلية والطائفية والجهوية والتعصب الديني فور سقوط النظام المُستبد. تثير هذه الانفجارات إحباطاً وخوفاً عميقاً ومبرراً، لكنها انفجارات لابد منها. إنها القيح الذي لا مناص من إسالته من الجرح حتى يتطهر ويتعافى. وفي النظرة إلى هذه الانفجارات وتقيحاتها يميل المزاج الشعبي في بلداننا إلى النفور والرهبة والهروب للأمام وعدم الاعتراف بها، وهي سمات جماعية من مواريث الحقب الاستبدادية الطويلة. وهذه كلها غرق في أسر اللحظة الراهنة والحاضر المرير على حساب الانحياز للتاريخ والمستقبل الذي تفتحه هذه الثورات وإسقاطها لواقع القمع والجبروت الذي يخفي المشكلات ولا يواجهها.

كل ما نراه الآن من فوضى وعدم استقرار هو نتاج طبيعي ومرحلة لابد من المرور بها إن أردنا الوصول إلى بلدان ومجتمعات قائمة على استقرار الحرية وتوافقات متكافئة بين الشرائح والمجموعات المختلفة داخل كل مجتمع. وليس هناك آلية سحرية يمكننا أن نستخدمها لحرق المراحل في هذه الحقبة. كان بالإمكان عبر عقود الاستقلال الطويلة أن تعمل الأنظمة التي ورثت الاستعمار على نقل المجتمعات والبلدان تدريجياً إلى دولة المواطنة والقانون والدستور، وبذلك توفر على نفسها وعلى مجتمعاتها مقامرة الانخراط في ثورات شعبية عارمة كالتي رأيناها. الشعوب والمجتمعات تميل بالطبيعة إلى آليات التغيير التدريجي والنمو والتطور الطبيعي إن كان ملموساً وحقيقياً ومقنعاً للغالبية. لكن في غياب ذلك كله، ومع سقوط الاستبداد في كل اختبارات بناء البلدان، وعقدا زمنيا بعد الآخر، تضيق خيارات الشعوب وتُدفع دفعاً نحو الخيارات القصوى، وتصبح الثورة مسألة حتمية، ومسألة حياة بالنسبة لهذه المجتمعات. حياة كريمة لكنها تأتي بعد مراحل صعبة ومريرة، أو البقاء في موت سريري مستديم تحت لافتة الاستقرار الموهوم. رهان الثورات العربية القائمة هو على المستقبل، ولا يعني هذا الهرب من الواقع، بل إن جذر الوصول إلى مستقبل صحي هو مواجهة مشكلات الواقع بعقلانية وصلابة وشجاعة وعدم الهروب منها.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى