صفحات الرأي

مستقلّون بتفوّق…

 

بيار لوي ريمون

هذه حكاية تروى عن عهد لم أشهده بعد…حكاية دعوة إلى الاستقلالية يشتدّ نداؤها اليوم تلو اليوم ولم يشتدّ عودها بعد. فإذا كان الشعب قد عرف كيف يبثّ شعار الشعب يريد إسقاط النظام في وجه العالم بأكمله، فقد كان بإمكانه أيضا بثّ مقولة الشعب يريد أن يكون مستقلاّ على وجه البسيطة دونما حرج… وهذه الصفة، صفة مستقلّ، لم نسمعها كثيرا.. ربما لأنّها عادت’بنا إلى فترة تاريخية مضت، وكأنّ المرء تخيّل أنّ باستقلال الأوطان صارت الشعوب مستقلّة فكرا وذاتا وقلبا وقالبا. ربّما لهذا السبب باتت كلمة استقلال ومعها مفهوم الاستقلالية حلقة مفقودة من المشهد السياسي لما بعد الثورة. فبالتالي، لم توظّف الكلمة كمفهوم، كما وظّفت مفاهيم الحرّية والفساد والعدالة الاجتماعية والقدرة الشرائية.

أجل، فالاستقلالية ليست مفهوما يتبادر إلى الذهن بشكل عفوي حتى يتسم بطواعية تمنح له قابلية صنع الشعارات والعناوين بسهولة… لكن أليست الاستقلالية المبدأ الذي ينبغي أن يحكم كل مشروع اجتماعي قويم؟ وبدءا، استقلالية الفكر فاستقلالية الفكر ليست ثمرة الصدفة وإنّما تحتاج لمخاض طويل النفس ينطلق من تكوين الشعوب، نعم… تكوين الشعوب وهنا ينبغي للتعليم أن يؤدّي دورا مشابها للعمل السياسي. فالسياسة هي الإطار: هي الإطار الأعمّ والأشمل، إذ إنّ كلمة سياسة، في معناها الأصلي، تتعالى على المدلول الحزبي الصرف، فهي مشتقّة من ساس يسوس أي قاد يقود، وهو فعل له أصلا معنى هو تربوي بامتياز، ومن ثمّة عمق مسؤولية المعلم والسياسي، ومعه الإعلامي. فالثلاثة يشكّلون مخطط ترويض العقول على التحرّك بشكل مستقلّ. وهؤلاء الثلاثة ملتزمون بتحكيم ضمائرهم في كلّ لحظة. فكما بإمكانهم بثّ المزيد من الآليات المساعدة على بناء المقاربات الموضوعية أو المنطقية للمعطيات الاجتماعية، بإمكانهم أيضا تقديم صور للواقع تأتي لمتلقّيها مصبوغة ملوّنة مطليّة بقشرة سميكة من المواضعات التي لن يستطيع هذا الأخير الى تفكيكها سبيلا، وهذا يسمّى، بالعربي الفصيح، غسل الدماغ.

أبرز اربيع الثورات العربية ا حلقة مفرغة بامتياز أكاد أقول إنّها تستمدّ جذورها من كلّ مخطّط ثوري. فالعمل الثوري دائما يبدأ بمطالب جماعات تصطفّ ضدّ رموز الهيمنة. وداخل هذه الجماعات موحّدة الصفوف ضدّ ‘الظالم الغاشم ‘، توجد طبقتان واضحتان، إحداهما سميكة جدّا، والأخرى رقيقة جدّا.

الطبقة السميكة جدّا هي الطبقة بلا خبرة، لا سياسية ولا نضالية ، تردّد الشعارات ترديدا آليا هو مجرّد رجع صدى لمنطق يتعالى عليها تعاليا كبيرا. أمّا الطبقة الرقيقة جدّا فهي الطبقة التي حنّكتها تجارب من الالتزام والتنظيم والانضباط . وغالبا ما تكون هذه الأخيرة الطبقة السياسية بالمعنى الحزبي الانضباطي للكلمة وليس الفلسفي النظري فحسب، وفي سياق الثورات العربية، لدينا مثال حي: مثال النهضة ومثال الإخوان. فأي حركية جماعية مطالبة بإسقاط نظام ما، أيا تكن الجماعة المطالبة، لا بدّ لها من إطار قيادي لا يتمّ لها بدونه مبتغاها. ويكمن عمق المشكلة في هذا الإطار القيادي بالذات، في طبيعته وهي طبيعة سياسية، بالمعنى الاصطلاحي المتعارف عليه في النسق الاجتماعي العام، أي معنى الترسّخ في إيديولوجيا معيّنة، وليس المعنى الأصلي’للكلمة الدالّ على إطار قيادي أسمى يقع فيه غضّ الطرف عن التلوينات الإيديولوجية المنحازة لمصلحة كرامة العيش والتعليم الرفيع، وفرص العمل، وقطاع صحي متطوّر.

أجل لا نجاح لمخطّط ثوري من دون قيادة، ولكن لا بدّ من الاتفّاق أوّلا على ما نعنيه بـبنجاحب وبـبقيادةب. فهل نجح المخطّط الثوري حتّى الآن؟ الأمر فيه نظر. ويطرح نفس السؤال بشأن القيادة السياسية التي أعقبت هذا المخطّط، هل كانت القيادة المناسبة؟ الأمر فيه نظر أيضا.

قد يقول قائل من غير الصائب ان نتساءل عن مدى مناسبة قيادة أوصلتها انتخابات إلى دفّة الأمور للمقام السياسي الجديد الموكول إليها، فقد نطقت الانتخابات بالقول الفصل ومن سار على الدرب وصل.. لهذا أتحدّث هنا عن مناسبة وليس محاسبة، فالمحاسبة تتطلب وقتا، وفي نهاية المطاف، العبرة تكون بقدرة الشجرة على أن تؤتي أكلها. لكن ثمة فرق بين المناسبة والمحاسبة: فقد تركّز تأطير الواقع المطلبي والتظاهري بالأساس على محاور، وإن كانت جوهرية، لم تصدر، إلا في النزر القليل منها، عن وعي تنظيري نقاشي استنفر الهمم لكتابة مشروع اجتماعي للمستقبل. وهكذا تمكّن التحزّب السياسي الذي لا يخلو من منحى إيديولوجي ابدا وإن تفاوتت درجته حسب المقام والمقال، من أن يتسلّل إلى داخل فراغ فكري تركه مجتمع مدني خالي الثقافة السياسية بالمعنى الكامل للكلمة، حزبا وفلسفة. ومن هنا مصداقية أن نتساءل عن نجاح المخطط الثوري ومناسبة طريقة قيادته لواقع الأمور مقالا ومقاما. ومعيار هذا التقييم، هو عين مفهوم الاستقلال الذي نبحث فيه في هذا المقال. فنحن لم نسمع الكثير من المؤشّرات الدالّة على استقلالية المشروع النهضوي ولا استقلالية المشروع الإخواني، بل سمعنا الكثير يذهب في الاتجاه المعاكس تماما: تقييدات على وسائل الإعلام، تقييدات على القضاء، محاولة دسترة وصاية مزعومة للرجل على المرأة، تضييق المجال أمام بناء أماكن عبادة جديدة للأقليات.

ألهذه الأغراض إذن تفعّل مساحات االحرية الجديدةب ؟ أين دورها في مساعدة شعوب الثورات العربية الغاضبة التفكير في:

– كيفية تحسين وضع الإعلام الذي لا يزال يواجه مطبّات كثيرة تحول دون فعالية الطيف متعدد الألوان الذي يفترض للصحافة، مكتوبة ومرئية، أن تشكّله بجلاء. فعسى الهيئة المستقلة للإعلام السمعي البصري في تونس التي رأت النور مؤخّرا تفنّد كلامي هذا وبقوّة…

-كيفية ضمان استقلالية قضاة باتت تلزمهم كما تلجمهم توجيهات سلطة تبدو منشغلة أكثر في صراع سياسي مع معارضتها، مما تبدو معنية بشؤون مواطنيها وشجونهم.

– كيفية تكريس موقع متميّز للمرأة العربية في المجتمع المدني، بحيث يصبح قادما ذلك اليوم الذي تصبح فيه لدولة عربية رئيسة وزراء، لا بل رئيسة؟ لكن من اجل ان تطرح مثل هذه المحاور فعلا على بساط البحث’والنقاش بما يعطي ثمارا، تبقى الإشكالية الأساسية لا تزال معلّقة، إنّها الإشكالية التعليمية القائمة على تطويع الأذهان وتطويرها، بحيث تتفتّق مداركها الباطنية لكي يصبح استقلال الرأي هو السائد، وليس استقبال رأي الغير والتماهي معه، من دون سابق تدبّر وتمحيص. عندئذ، وعندئذ فقط، تصبح الشعوب مستقلّة بتفوّق.

‘ كاتب فرنسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى