مستلزمات الحل السياسي.. قـبـل سـقـوط الـنـظـام: ميشيل كيلو
ميشيل كيلو
الحاجة إلى توحيد الصـف الديموقراطي والحـد من خلافاتـه السياسيـة ضروري وملحّ، كي لا تتكـرر في سوريـا تجربـة المنظمـات الديموقراطيـة في تونـس ومصـر، التي لعـب انقسامهـا وتبعثرهـا دوراً خطيراً في وضع الثـورة بين أيدي الإسلاميين
ليس من الضروري أن يقتصر الحل السياسي المطلوب على العلاقة مع النظام السوري القائم، بل انه قد لا تكون هنا كأية ضرورة له مع النظام الحالي بالذات، الذي أغرق بلادنا بدماء شعبها، وأغرق أيضاً جيشه في دمائه وجعله يقاتل منذ نيف وعامين لتبديل موازين قوى تتغير لغير مصلحته، بينما شرعت قوته تتراجع وأخذ يخسر مواقعه واحداً بعد آخر في ارجاء مختلفة من سوريا، من دون أن يغير تراجعه من إصرار قيادته على مواصلة حل عسكري/ أمني يدمر البلاد والجيش، اخرج القضية السورية من ايدي جميع اطراف الداخل ووضعها بين ايدي الخارج، لأن التسوية الداخلية تعني حتمية التغيير، في حين لا تتطلب صفقة تعقدها القيادة مع الخارج تغييراً داخلياً كهذا.
لبلوغ حل ديموقراطي، هناك ضرورة لعمل سياسي ينجز بين أطراف المعارضة السورية، التي بدأت تسير في اتجاهين تزداد تناقضاتهما هما الاتجاه الديموقراطي بضعفه المتعاظم، والاتجاه الإسلامي بتشعباته المتنوعة وفوارقه الخطيرة. فإن استمر تباعدهما الى ما بعد سقوط النظام، المحتمل في أي وقت، خرجت سوريا من أزمة «البعث» المديدة إلى ازمة جديدة معقدة ومركبة، سيكون لها نتائج كارثية، من غير المستبعد أن تقضي على ما ابقاه عنف السلطة الحالية من زرع وضرع، حضر ومدر، فنكون كمن خرج من تحت الدلف إلى تحت المزراب، وتذهب تضحياتنا الى وجهة مغايرة لتلك التي قدمت من أجلها.
إلى هذا، سيكون من الصعب جداً بلوغ حل ديموقراطي من دون عمل سياسي يتم بين مكونات الطرفين الاسلامي والديموقراطي، التي تتخبط في عشوائية سياسية وعسكرية ضاربة؛ حل يقوم على الإقرار الصريح بحتمية التفاعل والتكامل بين الجانبين السياسي والمقاوم في الثورة، يعرف الجمهور السوري تفاصيله ومراحله وأهدافه وممكناته ونتائجه المرتقبة من دون لف ودوران، ليس فقط من أجل الخروج من غوغائية نافية للسياسة تقتصر اليوم على شعارين أو ثلاثة يكررها ببغاوات «المجلس الوطني» ومن لفّ لفّهم، بل كذلك لإحباط أي مسعى غير عقلاني وواقعي يحول دون إخراج العمل المعارض من الاحتجاز الذي وضعته المعارضة فيه.
ليس الحل السياسي مع النظام حتمياً، وإن كان من الضروري ان تمتلك المعارضة تصورا واضحا حوله. أولا، لأن توازنات القوى العسكرية تميل شيئا فشيئا لمصلحة المقاومة على الأرض، جاعلة من فرصة الحل حلقة أخيرة في جهد وطني يرمي الى التخلص من النظام القائم، بما أن تفوق المقاومة الميداني المحتمل يمكن أن يفرز فئة من الضباط والسياسيين الرسميين ترى في الحل السياسي خشبة خلاص تمكنها من النجاة والتفاوض على إنهاء القتال والتخلي عن السلطة، مقابل دور تلعبه في سوريا المستقبل. وثانياً، لأن القوى الدولية قد تقتنع بحل تفاوضي وتمارس ضغوطاً جدية على أطراف الصراع السوري كي تقبله، فيكون تصور الحل لدى المعارضة أساس موقفها التفاوضي، وإلا وجدت نفسها مجبرة على الاستسلام لما يعرض عليها من الخارج، وعلى رؤية مصالحها بدلالة المصالح الدولية، التي لن تتطابق بالتأكيد مع اهدافها ومصالحها. في الحالة الأولى، يعتبر امتلاك تصور واضح ومعلن للحل مفتاحياً بالنسبة لانتصار الثورة، وفي الثانية يحفظ تصور كهذا ما يجب الحفاظ عليه من مصالح الوطن العليا. بالافتقار إلى هذا التصور، كما هي الحال الآن، لا مفر من ان تتخبط سياسات المعارضة وتخضع لتناقضات المواقف والأهواء، كما هي حالها الآن أيضاً، ولا بد أن تجد نفسها ملزمة في نهاية الأمر برؤية الحل بأعين النظام أو الخارج، وبدلالة مصالحهما، وبقبول تسويات لا تعبر عن طموحات الشعب وإنما تتعارض مع أهداف ثورته المفعمة بالتضحيات والغالية التكلفة.
– أما العمل السياسي الضروري للتوافق بين تياري المعارضة الرئيسين على مستقبل الوضع، وبغض النظر عن القوة التي ستخرج منتصرة من الصراع الراهن، فهو حيوي جداً بالنسبة إلى طرفي المعارضة: الإسلامي والديموقراطي، والى وضع حد لمأساة بلادنا التي ستحتاج إلى فترة تهدئة طويلة، كي تستطيع إعادة بناء ما هدمه النظام في طول بلادنا وعرضها. من الحتمي أن يقوم العمل المطلوب على توافق عام يمنع أي طرف من استخدام العنف لحل أية مشكلة، او بلوغ اي هدف خاص، ويلزم الجميع باعتماد الوسائل السلمية سبيلاً إلى تحقيق مراميهم،على أن يسلموا بأحقية من يكسب الانتخابات الحرة في إدارة شؤون البلاد بمفرده أو بالتعاون مع غيره ـ والتعاون أفضل بكثير وأكثر أمناً من الانفراد، اقله في المراحل التالية لسقوط النظام ـ.
لإنجاز هذا العمل، تمس الحاجة إلى مؤتمر وطني يتم التوافق خلاله على اسس التعايش الملزمة للقوتين السياسيتين اللتين ستتنافسان على ارض السياسة السورية بعد التغيير، شرط أن ينطلقا من مبادئ محددة تركز على موضوعين: تصفية ركائز الاستبداد وحوامله المجتمعية والسياسية ومقوماته الايديولوجية من جهة، والشروع ببناء بديل يقرّ بالتنوع وما يترتب عليه من تنافس سلمي، وبحق الآخر في أن يتحرك بحرية في جميع الظروف والاتجاهات، ان كان لا ينتهك القانون او يلجأ إلى العنف بالقول أو الفعل، من جهة أخرى. هل يمكن تحقيق شيء من هذا من دون اعتراف كل طرف بشرعية الآخر وبحقه في ممارسة السياسات التي يقررها بملء اختياره، ما دامت تلتزم بوحدة الجماعة الوطنية السورية وسيادة الدولة، وتحترم حق الأفراد والجماعات في العيش بكرامة ومساواة وعدالة. هذا الاتفاق يجب أن يكون مسجلاً في ميثاق وطني تنهض عليه الدولة ويحفظ وحدة المجتمع.
– وهناك أخيراً حاجة إلى عمل سياسي بين المكوّنات والقوى التي تنضوي ضمن الإطارين الديموقراطي والإسلامي، وتزداد علاقاتها تنافراً مع تطور الثورة وتزايد انجازاتها ومشكلاتها بدل أن تتقارب وتتحد في ظل تعاظم الحراك ونشوء مناطق محررة في ارجاء مختلفة من سوريا، تشرف على إدارتها وحفظ أمنها وتتولى شؤونها. في هذا المجال، لا يسود فقط انقسام عمودي يشطر القوى السياسية والمجتمعية إلى كتلتين كبيرتين: إسلامية وديموقراطية، تتركز في يد الاولى منهما كميات متزايدة من السلاح، بينما تتحول تنظيماتها إلى جماعات مسلحة متنوعة السياسات والولاءات، وتنأى الثانية بنفسها اكثر فأكثر عن السلاح والمقاومة المسلحة، وتتراجع مواقعها بين شعب شرده النظام وشتته في اصقاع الأرض الأربعة، ودمر بيوته ومدنه وقراه وقتل حيواناته وخرب ممتلكاته، واختطف أرواح وحيوات مئات الآلاف من بناته وابنائه، وطارده إلى المنافي، فلا عجب أنه يميل منذ بعض الوقت ميلا متزايدا إلى الطرف المسلح الإسلامي، وأن نزوعه إلى الانتقام يتعاظم ويتجذر ويضعه وراء خيارات مذهبية تختلف عن خيار الحرية التي قام بالثورة لتحقيقها.
بسبب هذا الانقسام، تمس الحاجة إلى توحيد الصف الديموقراطي، بالحد من خلافاته السياسية عبر حل سياسي تشارك هذه القوى مجتمعة فيه، انطلاقاً من رغبتها في التوحد قبل سقوط النظام، كي لا تتكرر في سوريا تجربة الجهات والمنظمات الديموقراطية في مصر وتونس، التي لعب انقسامها وتبعثرها دوراً خطيراً في وضع الثورة بين أيدي الطرف الإسلامي، رغم أنه لم يكن هو الذي صنعها ولم يساندها إلا في فترة متأخرة نسبياً. وبما أن وضع الاسلام السياسي السوري يختلف جدياً عن وضع مثيله المصري، الذي يضم كتلتين كبيرتين هما جماعة «الاخوان المسلمون» وحزبها، والكتلة السلفية وحزبها، بينما تنضوي معظم القوى الإسلامية السورية في تشكيلات جهادية وسلفية متقاربة الهياكل والتطلعات رغم تنوع اسمائها، تتزايد شعبيتها ومكانتها باضطراد في حين تتقلص شعبية ومكانة «الاخوان المسلمين» ويتراجع دورهم على الارض، فإن من الضرورة بمكان توحيد الطيف الديموقراطي وتجميع صفوفه في اسرع وقت، واختيار قيادات تنسق أنشطته وتوفق بين مكوناته، على ان تقوم ببناء أداة تنظيمية ضاربة وفاعلة وبرنامج نضالي واقعي وخطاب سياسي قادر على الوصول إلى وعي قطاعات شعبية واسعة وعواطفها، مؤيدة للخيار الديموقراطي، لكنها تقبع اليوم في بيوتها، لأنها لا تؤمن بالسلاح وتنتظر فرصة تتيح لها التعبير عن رأيها، فإن لم تجد قوى ديموقراطية موحدة تبعثرت بدورها، وأفاد الطرف الآخر من تشتتها وغيابها عن الحياة العامة، خاصة إنْ خوَّفها بسلاحه. هل سيقوم الديموقراطيون بما عليهم القيام به فيوحّدون صفوفهم ويبنون حاملاً اجتماعياً لنهجهم هو ضمانة التحول الديمقراطي السوري، الذي ستؤسس انطلاقاً منه لأول مرة في تاريخ سوريا أحزاب مجتمعية الهوية والطابع، لا تنثبق عن نخب تمارس السياسة كلعبة سلطة لا علاقة للمجتمع وللمواطن بها، يعاد من خلال أبنيتها وهياكلها إنتاج الاستبداد، وإن في صورة جديدة.
بتلازم هذه الانماط الثلاثة من العمل السياسي، ستضع بلادنا أقدامها على طريق الخروج من محنتها الراهنة، وسيقطع الطريق على خطر داهم يتمثل في انتقالها من أزمتها الراهنة إلى ازمة جديدة لا تقل عنها شدة وخطورة. ومع أنه ليس من الضروري أن يبدأ الحل بالعمل الأول، فإن وجود نمطي العمل الثاني والثالث حيوي لبقاء دولتنا ومجتمعنا، ما دام النظام يمكن أن يسقط بقوة المقاومة، التي لن تستطيع اخراجنا من معضلة الانقسام والتناقض الإسلامي/ الديموقراطي، وضمن مكونات كل طرف من الطرفين المذكورين.
يقتصر اهتمام المعارضة اليوم على المجال الأول، كما يعبر عن نفسه في ما يسمى التفاوض مع النظام، بينما يتم اهمال المجالين الآخرين ويتركان لصراعات تنافسية تمعن في تمزيق أطرافهما وشحن علاقاتهما بالتناقض والعداء، فلا بد من التصدي لما فيهما من مشكلات ليكون ممكناً حل معضلات المجال الأول، الخاص بالعلاقات بين المعارضة والسلطة. هل يتبدل الوضع الراهن وتتدارك المعارضة السورية نواقص علاقاتها فتتوفر لها القدرة على التخلص من مشكلاتها، الضروري لإسقاط النظام؟
السفير