مشاعر متقاطعة: آية الأتاسي
ولادة سنة ١٩٧٠…نحن جيل سنوات القمع:
إحساس غريب أن يكون عمر الإنسان من عمر الإستبداد، أن يكون من مواليد نظام القمع، كائن بشري لسانه مقطوع وذاكرته مختومة بالخوف و القهر.
طغيان بعدد سنوات عمرنا جثم فوق قلوبنا و أصابنا بنوع من التشوه الخلقي اعتدنا عليه و تعايشنا معه ..كنا كالقرود الثلاثة لا نسمع و لا نرى و لا نتكلم …كبرنا في مملكة الصمت و أصبحنا مواطنين مدجنين… نمارس الحياة كفعل ميكانيكي… نأكل، نشرب و نتكاثر…ونلتزم بقوانين السلامة التي ورثناها عن جيل الأباء…وكأن الصمت إعاقة مستديمة لا شفاء منها……و لكن صمتنا لم يكن بكما، و تراب القبر لم يكن ليمنع الضوء من التسلل لأرواحنا المدفونة حية…. خربشات أطفال درعا على جدران الصمت والخوف، كانت كافيه لتنهار تلك الجدران في داخلنا و تفك عقدة لساننا…ولكننا بقينا جيل الما بين بين …جيل أطفال الثمانينات الذين عاشوا رعب تلك الحقبه وصمت أبائهم …و جيل منتصف العمر, المتأخر قليلاً عن جرأة شباب الثورة اليوم و شجاعتهم….نسير على هذا الخيط الرفيع بين هؤلاء الماضي و هؤلاء الغد….نمسك بأيدينا عصا أمل سحرية و نحاول أن نتوازن بها و نمضي نحو الأمام ..نحو الخلاص..و نحن ندرك أن أية التفاتة للوراء…أي نظرة للأسفل ستعني هلاكنا. نصف العمر المرمي وراءنا نحاول أن نصفي شوائبه و نصفر عداد الزمن من بعده…
متى ولدنا؟ نحن ولدنا يوم صرخت سورية حرية!
أبجديات الحب و الصداقة في زمن الحرية:
كلما توغلنا في مطلب الحرية ..كلما غرقنا أكثر في بحر الدم..أمام الرؤوس المقطوعة و الأذرع المبتورة ..و هذا الإغتيال اليومي لإنسانية البشر والإنتهاك االمستمر لحرمة الحياة و الموت …أصبح الحب أشبه بقشة يتعلق بها الغريق لكي يطفو فوق مستنقع المجزرة و الجريمة…إنه ذلك الإحساس الذي يجعلنا نمتلئ بأوكسجين الحياة رغم تعذر شروط الحياة…. لم يعد الحب في زمن القتل رفاهية بل ضرورة حياتية، غريزة للبقاء و للإستمرار
قلبي يدق…قلبي حي …إذن قلبي يرتكب فعل مقاوم!
صار للحرية وجه يشبه وجه الحبيبه، و لذراعي الحبيبة أجنحة تحلق في سماء الحرية….صار الحب تعويذة للبقاء على قيد ثورة ، و إبحار إلى ما وراء الموت، إلى تلك الفسحة القريبة من السماء حيث لا لون يعلو فوق الزرقة…و صوت بعيد يغني: شوفي خلف البحر يا حرية ..خبريني شوفي؟
هذا الدرب الطويل إلى حريتنا يتعرج بنا و لا تتوه عنه أحلامنا, تخطئه القذيفة العدوة مرة و تصيبه الرصاصة الصديقة مرات كثيرة …على دروبه نسير بسترة واقية من الكلام القاتل و نلم الصداقات المتساقطة كأوراق العمر اليابسة، لم تعد هناك كلمات معسولة تستر العورات المكشوفة، إنه زمن السقوط الكبير…. صار الطريق الذي جمعنا بأصدقاء عمر بأسره يتفرع عند تقاطع الثورة مع أوجاعنا و مع إنكارهم… و يبقى السؤال المعلق على ناصية الطريق…”كيف عشنا معهم كل هذا العمر؟”
كوابيس زمن الحرية:
كوابيسهم التي يعيشونهم يومياً في البيت و الشارع وعلى الحاجز….أعيشها في الليل في متوالية طويلة من الرعب..كأن أستيقظ مذعورة على رؤوس تسقط من شجرة برتقال الجيران.. أو وجوه تطمر تحت التراب لأعود و أجدها منتظرة في المقعد الخلفي للسيارة و هذه المرة منتفخة و متورمة من التعذيب… وجوه كثيرة تعبر كوابيسي الليلية لا أعرفها شخصياً و لكنني أعرفها كثيراً…. فهي وجوه بملامح سورية حارقة بامتياز، وجوه تشبه وجوه كل من عرفت و أعرف…..
و عند نهاية كل حلم أبحث عن شارة أو بشارة تدلني على النصر…كأن تسير السيارة و لا تتوقف و كأن لا شيئ سيمنع بلوغنا الحرية،..أو أن تمر طفلة صغيرة بين الرؤوس المقطوعة و لا تصاب بأي أذى ، دلالة على أن حلمنا سينجو من بنادقهم و سكاكينهم!
أحس نفسي عاجزة عن التحكم بسير أحلامي ، كعجز العالم بل تخاذله عن التحكم بسير موتهم و سيرة عذابهم….أنجح فقط
في تأويل الإشارات العابرة للأحلام و تحويرها بما يخدم الأمل الذي بتنا نعيش عليه و نرتقه بكل ما في جعبتنا من صبر و إيمان وتفاؤول.
الغربة في زمن الحرية:
نحن البعيدين ألاف الأميال جغرافياً عن سورية و القريبين بقلوبنا منها قيد أنملة ….نعيش بجسد بعيد و قلب ما زال ينبض ويكمل دورته الدموية علـى بيوتها و أهلها و حواريها.
الوطن ليس مكان تسكنه بل هو مكان يسكنك و تفوح منك رائحته و وتكشفه دائماً دموعك…لم يكن ل ” أنا سوري” معنى كما هو اليوم…لا أستطيع أن أحبس دموعي في كل مرة يتوجب علي أن أجيب فيها عن سؤال: من أين أنا؟ أختنق بالجواب و تسيل دموعي، لا أعرف إن كانت دموع اشتياق أم دموع حزن و ألم على ما حل بسورية.
سيسقط نظام الطغيان يوماً..وسوف نعود… و لكن لن نعرف بلادنا و لن تعرفنا….سنكون كالغرباء و نحن نجلس بينهم و نسمعهم
يتحدثون عن طائرة الميغ و الدوشكا …والوقوف على الحواجز…عن أيام الجوع و الرغيف الدامي ….عن انقطاع الكهرباء و البرد الذي ينخر العظام….سنستمع لهم و هم يروون لنا عن تلك الأيام…روايات تشبه روايات السجناء بعد خروجهم من السجن و وهم يسردون لأهلهم المتحلقين حولهم يوميات الزنزانة و تفاصيل السجن الأليمة ….سجن لم يكن يرى منه الأهل غير شباك الزياره ….شباك يشبه زجاج التلفاز أو الحاسوب، الذي نفتحه نحن “الخارج ” كل يوم لنرى هم “الداخل” من خلاله….
أتذكر عجوز ألمانية عاشت الحرب العالمية الثانية وويلاتها عندما كانت طفلة، كانت تجمع فتات الخبز و ترميها للحمام و البط….كانت تربطها بالخبز علاقة قدسية خاصة ، فهي عاشت الحرمان منه أيام الجوع و القحط في ألمانيا و لم تستطع أن تشفى من ألم الجوع الذي كان ينخر معدتها و هي صغيرة…تعلمت ببساطة احترام الخبز و تقديسه…كانت تجمع قطع الشوكولا كمن يجمع المجوهرات النادرة و حينما سألتها يوماً عن سر عشقها للشوكولا..أجابتني أنها حرمت منه عندما كانت صغيرة..و أول مرة ذاقته، كانت عندما دخلت جيوش الحلفاء ألمانيا و قامت بتوزيعه على الأطفال!
أعيد إعمار ألمانيا بعد الحرب و لكن جروح أطفال الحرب كبرت معهم
كم جيل سيمر لنعيد إعمار القلوب السورية المهدمة؟ و هل سينسى السوريون يوماً طعم الخبز المدمى؟
من المؤكد أن مرحلة الثورة ستبقى أهم مراحل تاريخ سوريا الحديث….مرحلة ترميم الإنسان السوري من نقطة الصفر
اللوحة للفنانة سلافة حجازي، وهي تشارك بلوحاتها في محور: بمثابة تحية إلى نساء سورية.
خاص – صفحات سورية –