صفحات سوريةنبراس شحيد

مشاهد مفكّكة في شهوة الموت

    نبراس شحيّد

الموت، كيف نصوّره، وأي ريشة تنفع لإظهار قسماته؟ حاول الكثير من الفنانين رسمه، وشخصنه البعض شبحاً مخيفاً، كما فعلت ماريان شتوكس في لوحتها الشهيرة “الفتاة والموت”. نشاهد الموت هنا أنثى مرعبة تبسط جناحها الأيسر مستوليةً على فضاء اللوحة، في الوقت الذي يستعدّ فيه الجناح الآخر للإطباق على فتاةٍ بعمر الورد تلفظ النفس الأخير. تتكدس البنت اليافعة على ذاتها وقد استولى عليها الرعب، فنرى أصابعها وقد تشنّجت في يأس اللحظة الأخيرة، لتتشبث بالآن الهارب رغبةً في الحياة، لتقاوم الموت، أو ربما لتنكره!

لكن، كما صوّر الكثير من الفنانين الرعب من الموت، تجرّأ قلّة منهم على تصوير شهوة الرحيل، ففي أحد رسوم “الفتاة والموت” لإدوارد مونخ، نرى فتاةً عاريةً وقد أطبقت على الموت، عشيقها، لتلفّه بجسدها الغض في خدر القبلة الأخيرة. يتداخل الجسدان في مشهدٍ يخلو من الألوان، وقد تعرّى من ديكور الخلفيات الفنية، وتجرّد من تنويعات الأشكال، ليقول شيئاً واحداً يصعب قوله: إنه الموت مُشتَهىً محبوباً!

لكن كيف يمكن الموت، منبع قلقنا، أن يصير فاتناً مرغوباً، وكيف يمكن عشق الحياة أن يمتزج بشهوة الرحيل؟! هذا سؤالٌ يربط خواطر تتبعثر هنا من دون أن تصير مقالاً، لتظل مشاهد مفكّكة تقول إن السؤال الواحد يبقى من دون إجابةٍ واحدة.

باسل شحادة

من دون ريشٍ ولا ألوان، يرسم السوريون الحياة، كما الموت، بأجسادٍ متناثرة، تُبقي لأيقوناتهم بعد الرحيل بريقاً غريباً، كذاك الوميض الذي تركه غياب الصديق باسل شحادة. استشهد باسل، فكان لموته وقعٌ غريب، عبّر عنه، كما لم يعبّر عنه أحدٌ من قبل، تعليقٌ كُتب على إحدى صوره: “هالزلمة مات…” (هذا الرجل مات…)! لاسم الإشارة “هذا” صدىً أخّاذ، فتراكمُ الجثث كاد أن ينسينا أن لكل شهيدٍ حكاية، وأن أرقام الموتى التي تتداولها وسائل الإعلام قد تغرقنا في نسيان من قضوا. لكن، كما كان لانبثاق حكاية باسل وقعٌ غريب أعاد للموتى بريقاً مؤنّسِناً، كان لسحر حكايته شهوةٌ أخرى: الكثير ممّن عرفوه صاروا يتمنون الموت تماهياً معه! “نيالك”، صرنا نقول بوجع، “إن شاء الله عقبال عندي”، بتنا نردد بشغف، لينكشف شيءٌ من الحسرة التي تسكننا: “لم أَغَرْ من أحدٍ مثلما غرت منك يا باسل”، أو من مرارة الشعور بالذنب: “لقد استشهدتَ، أما أنا فما زلتُ حياً”، قال أحد الأصدقاء مناجياً الشهيد أمامي بألم!

مع انصباغ الألم هذا بلون الإثم، ومع كثافة المشاعر التي تجتاحنا في واقعٍ يسوده الموت، تصير الحياة ثقيلة لأنّنا قد نودّ أن نردّ للموتى ما بقي لنا من حياةٍ عرفاناً بالجميل، كأن استشهادهم صار ديْناً لا عطيةً نحيا بها وفيها! هكذا، صرنا ننسج حكايات موتنا أحياءً، نتخيّلها في سرّنا، نصوغها، نكرّرها، نقبّلها، نشتهيها. لكن هل يمكن الحي أن يتصوّر موته؟

الدور المستحيل في الحكاية المتخيَّلة

نتخيّل موتنا، أحياناً. نريد أن نكون شهداء، أحياناً. نتصوّر كيف يحملنا الأصدقاء على الأكتاف أحياناً، وكيف تزغرد النساء لنا، وكيف تبكي العشيقة عشيقها، أو العشيق عشيقته، وكيف يستقبلنا “الملائكة” في “الجنة” إن كنا مؤمنين. لكن كيف يستطيع الإنسان أن يتصوّر موته؟! محمّلاً على خشبة؟ ممدّداً على سجّاد الجامع، أو نازفاً على الأرض؟!! أيّاً يكن، فالغريب في الأمر أن الميت يقوم بالدورين في الآن عينه، فهو المُشاهِد والمُشاهَد! نشاهد نحن أنفسنا شهداء، فنفشل في تصوّر موتنا، ويبقى موتنا غريباً عنا، مُنكَراً في أعماقنا، مادةً خاماً لا يمكن معالجتها! هذا ما قاله مؤسس التحليل النفسي، سيغموند فرويد، منذ مئة عام على طريقته: “تؤكد مدرسة التحليل النفسي أن الإنسان لا يعتقد بموته الشخصي، أو أنه، بمعنىً آخر، مقتنعٌ في لاوعيه بأنه لا يمكنه أن يموت”! (“أفكار لأزمنة الحرب والموت”، 1915).

حوارٌ صامتً حول التابوت

كتب الصديق العزيز عامر مطر في مقاله عن الشهيد باسل شحادة: “وَصَلَت الريحُ إلى كل الشوارع السوريّة، وسرقت أصدقاء كثراً، آخرهم باسل، حتى تمنّيت لو أنني متّ قبلهم في ساحة ما، في زنزانة ما، خير من العيش بذاكرة تحولت مقبرة جماعيّة” (“باسل شحادة كاميرا حتى الموت”، الحياة 6/6/12). أمام قسوة الحياة، وانقلاب الذاكرة مثوىً للأموات، تقول كلمات عامر مطر بصدقٍ كيف يمكن الموت أن يصير خلاصاً يريح من بقي على قيد الحياة من ألم الخواطر، من ذكريات الذين رحلوا، من بشاعة الحال، ومن وجع الضمير.

تحيا كلمات عامر مطر الصادقة فينا، في وقتٍ تخطّ فيه إحدى صديقات باسل ألمها على صفحته الـ”فايسبوك” بعد استشهاده، لتصير كلماتها وصية: “لمين تركت البلد لمين؟ لمين تركت الطرقات المهجورة؟ الله يسامحك قطعتلنا قلبنا”! حكمة الأنثى هنا لا بد مصيرية: لقد مات الشهيد لنحيا ما استطعنا، لا لنموت! فلنفكر ألف مرة حين نشتهي الشهادة أو نحلم بالبطولة، أو حين نضحّي بأنفسنا أسخياء من أجل أمرٍ قد لا يكون دوماً مصيرياً، في وقتٍ قد تكون فيه المحافظة على حياتنا، مع كل صعوباتها، أكثر فائدةً لمستقبل بلدنا! نحن لا نقدّس الموت، تقول الوصية، بل نحب الحياة ونستقبل الشهادة إن هي أتت! حكمة الأنثى هنا لا بد مصيرية: لقد مات الشهيد وأوصانا بأن نحافظ على الحياة ما استطعنا، فالبلد أمانةٌ في أعناقنا، والموت قد خطف الكثير من زهور البستان!

لكن أبواب الحديقة لا تزال مفتوحة، ولا يزال في البستان وردٌ كثير.

(راهب يسوعي سوري)

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى