مشروطية بعض المثقفين!
زياد ماجد
ثمة مثّقفون عرب اعتادوا احتقار مجتمعاتهم وازدراءها وتركيز النقد عليها بحجّة تخلّفها واستكانتها أمام الاستبداد وقابليّتها للقمع. وما أن هبّت المجتمعات هذه في ثورات وانتفاضات (بعضها أسطوري العزم والشجاعة) لإسقاط الاستبداد ومواجهة آثاره، حتى صمتوا أو راحوا يضعون دفاتر الشروط عليها لكي يقرّروا ما إذا كانوا سيقفون الى جانبها وهي تواجه المَدافع والسكاكين أو يبقون على “الحياد”.
هكذا مثلاً، اشترط بعضهم على الثورات القول بما يكتبونه في مقالاتهم ونصوصهم عن قيم الفردية والعلمنة والحداثة. ولأنها لم تفعل (في هتافاتها وطقوس الموت المُلحق بها)، اعتبروها لا تستحق تعاطفهم. وهكذا أيضاً، قرّر بعضهم الآخر أن على الثورات تغيير المجتمعات وليس فقط إسقاط الأنظمة السياسية كي يليق بها الدعم والتأييد. أي أن على من وسموهم طوال عقود بالرجعية والخنوع والظلامية أن يغيّروا أنفسهم و”قيمهم” وثقافاتهم قبل إسقاط الحكم الاستبدادي الذي يُعمل المجازر والتنكيل اليومي فيهم، وإلا فليس في فعلهم ما يستحقّ اعتباره ثورياً.
أما كيف يمكن التغيير والتفكير الحر والاعتزاز بالكرامة التي تخلق المواطن الفرد في ظل حكم يخنق كل قول ويمنع كل تعبير ويُطلق الصواريخ على الناس إن اعترضوه، فمسألة لا تبدو محورية في بال المثقفين هؤلاء. تماماً كما لا تعنيهم العودة الى تاريخ الثورات، وخصوصاً الفرنسية التي يتغنّى كثر منهم بها، والتي تبعتها الحروب والصراعات السياسية ومشاريع الأمبراطورية طيلة قرن قبل أن ترسو أمورها على برّ الحرية ودولة القانون وحقوق الأفراد…
على أن من يبزّ المثقفين “النخبويّين” المذكورين نفاقاً تجاه الثورات، وبخاصة السورية، هم مثقّفو تيارات الممانعة “التقدمية”. فهؤلاء، وهم “طليعة الجماهير”، يزعمون شدة الالتصاق بشعوبهم و”عضوية” انتمائهم لها. لكنهم في الوقت ذاته يشمئزّون من الخارجين من المساجد ومن صيحاتهم، ولا تعجبهم أي تركيبة أو هيئة ثورية، كما أنهم لا يأخذون نفساً لأكثر من 24 ساعة قبل بدء هجائهم للسلطات الناشئة انتخابياً (في أوّل استحقاق) بعد سقوط الاستبداد، وتقصيرها في الشؤون الإصلاحية وفي بدء مناطحة الإمبريالية.
في المحصّلة، يبدو أن المثقفين “النخبويين” يفضّلون الاستبداد والقمع بحجة “تخلّف” المجتمعات وعجزها عن تعديل ذواتها، وأن “الممانعين” لا يعجبهم شيئًا ولا يعنيهم سوى التنقيب عن المؤامرات ومنازلة طواحينها. بذلك، يتلاقون على العداء للثورات بوصفها قاصرة أو متخلّفة من جهة، و”سلفية” مُحرّكة أميركياً من جهة ثانية… لحسن الحظ أن لقاءهم لا يغدو هذه المرة كونه كلاماً في الوقت الضائع. فالزمن عاد الى المنطقة العربية، والناس في الساحات تستكشف مساراتها وتتلمّس (ولو بصعوبة فائقة) خطاها لافظة كل الطفيليات التي لطالما سعت لتوجيهها وتلويث عقولها، تماماً كما كانت تفعل منظومات الاستبداد.
لبنان الآن