صفحات الناس

مشروع النظام السوري لمحو حمص القديمة/ عبد السلام الشبلي

 

تقول شائعات يتداولها أبناء مدينة حمص، المهجرين من ديارهم قسراً، بعد إمعان نظام الأسد في تدميرها، أن الأخير سيبدأ قريبا بجرف ركام الخراب الذي سببه قصف قرابة عامين لأحياء المدينة، تمهيدا لتنفيذ مشروع «حلم حمص»، الذي طالما عارضه الحماصنة. بالعودة إلى سنوات خلت قبل الثورة السورية، سنجد أن النظام طرح فكرة تغيير معالم المدينة القديمة، عبر محمد إياد غزال محافظ المدينة المقرب من بشار الأسد، إلا أنه واجه نقدا كبيرا من سكان المدينة وتجارها على وجه التحديد، لما فيه من تضييع لمعالم المدينة وحضارتها القائمة منذ مئات السنين، فضلا عن كون المشروع سرقة مقوننة لما يمتلكه المواطنون من أرزاق، أراد النظام أن يعوضهم بدلاً منها بعقارات خارج نطاق المدينة، في الضواحي التي بناها على عجل .

الهدم الذي كان مقررا، يشمل أحياء قائمة بعينها هي التي، تحفظ من التاريخ الحمصي، وهذا ربما جعل أبناءها يقاتلون حتى اللحظة الأخيرة، من أجل منع وصول مدمري العمران الحضاري إلى مبتغاهم.

ورغم رفض المشروع وقتها، أكد النظام بلسان محافظ حمص ، «أن التنفيذ آت لا محالَة»، متوعدا كل من يعارضه باستخدام القانون السوري، من أجل التضييق عليه واجباره على الموافقة، خصوصا تجار المدينة الذين كانوا أكبر الخاسرين من ذلك المشروع.

 

بين رفض الحماصنة، وتعنت غزال ومن ورائه الأسد، اندلعت الثورة السورية في آذار 2011، وخرج أبناء المدينة في الأسبوع الأول لتظاهراتهم، مطالبين بإقالة المحافظ غير المرغوب فيه، في إشارة واضحة، أنهم لا يريدون حلماً يدمر مدينتهم، ويخفي معالم ذاكرتهم الجميلة .

كان رد النظام على المطلب اليتيم، بأن أطلق الرصاص على المتظاهرين، حاصدا عددا من الشهداء، في أول أسبوع من التظاهر، ثم كلل رغبته بالتفاهم مع أبناء المدينة، بمجزرة ساحة الساعة في يوم الاستقلال السوري 17/4/2011.

تطورت الأحداث بعد ذلك، قتلٌ لأبناء المدينة يحصد المئات، اعتقالات واغتصاب وتنكيل، ثم بداية لحملة شاملة على المدينة، ومجازر لا حدود لها، ومقاومة قل نظيرها، في ظل حصار خانق خلف آلاف الشهداء استمر لأكثر 700 يوم، وسط صمت عالمي على موت مدينة، كان مخططا لها أن تصبح قبل أعوام حاضرة معمارية «مهيبة«، كما زعم نظام الأسد مرارا.

صار الحلم «كابوساً»، دمر النظام المدينة كما أراد مسبقا، لكنه لم يستخدم الجرافات والتريكسات التي عادة ما تقوم بهذه الأعمال، كان القصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة هو الوسيلة الأنجع بالنسبة إليه. فلم يَبق حي في المدينة التي رُسٍم ضمن نطاق الحلم، إلا وغزاها النظام بقذائفه ومتفجراته، منقذاً تخريباً تاماً لعمران مديني تاريخي يزيد عن ألفي عام بكل ما في حمص القديمة من مساجد وكنائس وآثار خالدة، بدءا من مسجد الصحابي خالد بن الوليد، ومرورا بكنيسة أم الزنار وقصر بيت الأغا وحمام الباشا العثماني وغيرها كثير.

خرج الثوار من المدينة أخيرا، بعد أن تركوا وحدهم لمواجهة الموت بأشكاله المختلفة.

وإذ تصبح حمص بلا سكانها اليوم، ويتداول أبناؤها البعيدين عنها، فكرة أن رؤية مدينتهم أصبحت بعد اليوم حلماً.

فالنظام باحتلاله لأحياء حمص، يقول إنها أصبحت بعد اليوم سرابا لأبنائها الذين عصوا مشيئته. وعندما يطلق مشروع شائعات «الحلم«، إنما يفتح المجال لتقبل الفكرة، ممن تبقى من أبناء الأحياء الآمنة داخل حمص، المغلوبين على أمرهم في ظل سلطة الشبيحة، وقوات النظام المدعومة بالميليشيات الإيرانية وغيرها من التابعين لحزب الله اللبناني، والتي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حامية حلم النظام، بأن تكون حمص خالية من أهلها الأصلاء كما رغب مؤيدو الأسد منذ بداية الثورة .

وبإعادة لسيناريو حافظ الأسد في حماة بعد 1982، بدأ النظام بإطلاق أفكار لمشاريع بنائية جديدة، استهلها مع خروج الثوار من المدينة، بتأهيل ساحتي الساعة الجديدة والقديمة وسط المدينة و«زرع الأزهار« المصاحبة للافتات ممهورة بتوقيع رأس النظام، يعلوها كلمة «سوا نعمرها«، بعد أن هدمها، وهو عنوان حملة الأسد، في لعبة الانتخابات التي ابتدعها.

كما أوعز النظام لغرفة تجارة وصناعة حمص، تأسيس ما سمي صندوق إعادة إعمار المدينة برأس مال قدره 100 مليون ليرة سورية، إلى جانب تقرير خطط «إسعافية« هندسية، لتأهيل بعض الشوارع قبل البدء بالعملية الأكبر، وهي إعادة هيكلة المدينة بأبنية جديدة ذات ارتفاعات شاهقة، ناهيك عن فكرة المشروع التنموي المتكامل للمدينة المطروح من قبل وسائل إعلام النظام التي تطالب الحكومة بتبنيه .ويحدث كل هذا في ظل منع أكثر من نصف سكان مدينة حمص من العودة إلى ديارهم، بعد وصم شباب المدينة بتهمة الإرهاب، والعائلات الهاربة من جحيم الحرب، إلى بلاد أخرى بتهمة الخروج غير الشرعي من سوريا .

لكن الضفة الأخرى من المعادلة تقول غير ذلك، فالصور التي تناقلها السوريون على مواقع الإنترنت تقول إن العائدين إلى أحيائهم، يملكون حلماً آخر، مفاده أنهم سيعودون ويعمرون بيوتهم التي دمرها جيش الأسد، ولن يسمحوا بسرقة ما تبقى من حجارتها .

و»الحلم« الأهم لهذه المدينة المنكوبة ربما، هو كلمات ثوارها الأخيرة قبيل الخروج منها: «نحن عائدون« يقول «عبد الباسط الساروت (ابن الثورة البار) إنه ورفاقه ما خرجوا من المدينة، إلا ليعودوا إليها حاملين راية النصر والتحرير بعد أن يسترجعوا شيئا من قوتهم التي فقدوها جراء الحصار الطويل .

هي الأحلام التي تنقلب كابوساً في المدينة القتيلة.

صحافي سوري

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى