مشهد رأسي من بنايات بيروت العالية/ محمد حاج حسين
وصلت إلى لبنان قبل عامين ونصف كالجميع، بلا أيّ معرفة مسبقة بما سأفعله في هذه البلاد. تجتاز السيارات عادةً المعابر الحدودية وتوصلك إلى نقطة متّفق عليها. تضعك السيارات الآتية من معبر المصنع أمام خيارين، إمّا برج حمود أو الدورة، وكلاهما قادر على إضاعتك، إلّا أنّك في هذا المكان ستجد على الأقل شخصين قد تعرفهما يمرّان كل ساعة أو اثنتين.
في الجبل لم يكن العمل يتطلب تقديم سيرة ذاتية، صاحبو الورشات والمحال التجارية وأصحاب المهن التي يسمّيها البعض أحياناً “أعمالاً لغير اللبنانيين”، أو “أعمال الأجانب”، حتى أوراقك الثبوتية لا تهمهم، المهم أن تلتزم بالعمل وتقنع بـ “اليومية” وما يمكن أن تتقاضاه شهرياً.
يختلف كلّ شيء في بيروت. تصير الحواجز أكبر من مجرد عسكرة وأمن عام. تجبرك بيروت على السعي وراء أعمال معيّنة والسكن في أماكن تختلف عن بيوت الجبل والمناطق الأخرى. يُقال إنّ العائق الأول هو الغلاء في أسعار كلّ شيء، حتّى الدخان يصبح أغلى من قبل. يصير السكن أكبر العوائق والماء والكهرباء إن وُجدت، دائماً، كما ستسمع موشحاً يومياً من كل الذين يمرون قربك، عن فرص العمل التي سرقتها من أبنائهم والضغط الذي فرضته وفودكم التي لم تتوقف لهذا البلد، من دون معرفة أنّ كل هذه الأعمال حقيقة “لغير اللبنانيين”، أعمال الأجانب جميعاً.
حتى الذين يعتبرهم البعض الطبقة المتعلّمة، والتي يقول عنها الكثير العمال الأصدقاء “تبعول الجميزة والحمرا”، هم بدورهم يبحثون بين البنايات العالية عن فرص عمل قد لا تناسب ما تعلّموه، بحثاً عن معارض ودور نشر وشركات إنتاج ومكاتب توظيف، هنا ودائماً ما يفعله الجميع في ليالي العيش في شوارع بيروت، التفكير في السفر، الهرب، الانتحار، أو الإقبال بلا مبالاة على كل هذه الحالة الصعبة التي تفرضها الطرقات وكلمات يومية على المسامع.
يضيق المشهد كلّما تعمّقت في زواريب الأحياء البيروتية. ترى التشابه جلياً، يجمعك الفقر مع الجميع، يجعل الكل واحداً كأنّهم أبناء هذا الاسم، ديناً ومعتقداً وجنساً. ترى العامل اللبناني مقبلاً على الحزن كأنّه أنت، يعرف تماماً ألّا مكان للوقوف سوى ساحة الانتظار حين انتهاء العمل، يقول كأنّه يهمس لك، “هالبلد ما فيها مستقبل لحدا حتى أولادها”. عادة يستغرب الجميع وجود لبناني في ورشة بناء، كما يستغرب الجميع وجود فقر في شوارع المدينة ذات البنايات العالية.
البنايات هذه، المتراصة، المتباعدة، والعالية دائماً، سمة الحياة في المدينة التي لا تنام. يكفيك الارتفاع طابقاً، طابقين لترى كل شيء بوضوح. لا فرق بين المارة حين تميل رأسك نحو الأرض، الأعمار من الأعلى ترسمها الخطوات، تتوقع كيف تكون مشية شاب أياً كان، السرعة التي يخطو بها كأنّه يهرب من عينيك، العجزة الذين يمشون بحنين كأنّ الطرقات التي يسيرون عليها تعرف خطواتهم وأين يرسمونها. كل هذا من بنايات بيروت العالية، في أي شارع من شوارعها لن يتغيّر، المشهد الرأسي نفسه لمدينة لا تنام، وقد لا تدعك.
بيروت التي مرّت بكلّ هذا الحزن وكلّ هذا الفقر، وارتفعت فوقه، وأحياناً دون الاكتراث لمن ينسحق في جنباتها لتعلو، قد تعرف كيف تقتلك، كما تفعل دائماً، ولكنّها لن تعرف أبداً أنّه في نظرة واحدة ممّا يسمّى المشهد الرأسي للبنايات العالية، الجميع ينسحق، بكل خطواتهم التي تسبقهم دائماً فيها، هذه الـ”بيروت”.
السفير