مصر.. الثورة المغدورة، الثورة والانتخابات
عباس بيضون
مصر، بعبد الناصر وبدونه، قبلة العرب. هزيمتها عام 1967 جعلتنا أيتاماً، ذهب السادات إلى الكنيست الاسرائيلي. لكن بعد أن أمر بالحرب الوحيدة الناجحة ضد إسرائيل وبعد أن تحررت سيناء، لكن الاثنين وطدا نظاما توتاليتاريا احتكرت الدولة فيه السياسة والاقتصاد والحقوق، عهد السادات، ولو بقلة، بدأت رأسمالية الدولة تخرج من الدولة لكن عهد مبارك شهد هذا التحول. خرجت رأسمالية الدولة من الدولة، وقامت بذلك الطبقة الجديدة. لكن الجيش الذي طاول التفكيك مؤسساته أو كاد سمح للثورة الشعبية بأن تجرف النظام ولم يتدخل لحمايته. انفجر النظام وانفجرت الدولة وانفجر المجتمع وما زلنا في هذا الطور. استطاع الإخوان المسلمون في خضم هذه العملية أن يخطفوا السلطة، ومنذ ذلك الحين وهم يحاولون الاستيلاء على الدولة. هذه المحاولة سرّعت التفكيك وسرّعت الانفجار بحيث أن البلد وصل إلى حافة الحرب الأهلية. ما دعي بأخونة الدولة يتم في العلن وعلى مرأى من الجميع، الأمر الذي يعني تملك الاخوان الدولة واحتكارهم لها. يعني ذلك أيضاً محاولة وعرة وفجة لإنشاء توتاليتارية جديدة في خضم الصراع الاجتماعي وفي وضح النهار وأمام المجتمع كله، هذه المحاولة فاقدة مشروعيتها فهي لا تتم في الخلسة والمناورة التي تتيح لعقيدة الحزب أن تطابق القانون وتطابق الدولة وتصبح هي القانون وهي الدولة. الأخونة تعني أن الأخوان يمارسون علناً التمييز فيحق لهم ما لا يحق لغيرهم، ويكون لهم أن يعتدوا وأن يتسلطوا وأن يجنوا على الآخرين من دون أن يتعرضوا للعقاب ما دامت السلطة ملك يمينهم فهم يوجهونها ضد خصومهم، الذين وحدهم يتلقون العقاب ويحاكمون ويجري عليهم القانون. أخونة الدولة هنا تعني إخراجها من شرعيتها وإخراجها من مثالها ووهمها وادّعائها. أخونة الدولة تعني فوراً وبدون أي فاصل احتكار الاخوان لها وتملكهم لمؤسساتها وتمييزهم القانوني. الدولة عندئذ ليست للجميع ومؤسساتها كذلك والقانون ليس حيادياً ولا أعمى، إنه قانون الاخوان وهو سلاح في ايديهم يشهرونه على غيرهم ويدينونهم به بينما هم منه براء. ولا يجري عليهم، لهم أن يتبلطجوا وأن يعتدوا وأن يقتلوا ويسحلوا من دون أن يتعرض لهم القضاء أو القانون. ذلك ما يعنيه توعد وتهديد الرئيس بعد موقعة المقطم التي يقول شهود إن الإخوان بادروا إليها. ذلك ما يعنيه الاصرار على نائب عام اخواني تم تعيينه خارج العرف القضائي وخارج القانون الذي سنه الاخوان أنفسهم. هذا ما نفهمه من كلام معارضين يشككون بشرعية الرئيس رغم انه انتخب باقتراع نزيه وعلني، التشكيك بشرعية الرئيس وشرعية النائب العام يعني أنهما ليسا للجميع وليسا حياديين وأنهما يضعان السلطة والقانون وأجهزة الحكم في خدمة الإخوان.
قد يبدو أن الاخوان تسرعوا في محاولة الاستيلاء هذه وأنهم لم ينتظروا حتى يهدأ الوضع ليبادروا إلى تهريب أعضائهم وتنصيبهم بصمت ومواربة في مواقع السلطة. قد يبدو أنهم تسرعوا في مماهاة أنفسهم بالدولة وعقيدتهم بالقانون، انهم لم يفعلوا ذلك بتأن وتؤدة وبدون علن فاضح. انه كان عليهم ان يهيمنوا ويحكموا سيطرتهم ويعيدوا للأجهزة التي اضطربت واختلت أثناء الثورة هيبتها وسلطانها قبل أن يبدأوا بتوجيهها لمصلحتهم واستخدامها لمآربهم، الدولة المصرية الحديثة منذ انقلاب 1952 لم تشهد هذه الدرجة من التصدع والاهتزاز، ويكفي ان نتذكر ما فعله السادات حين أحبط انقلاباً داخلياً بدا لأول وهلة قوياً وشاملا لكل مراكز القوى في السلطة، إذ يكفي ان يقرر الرئيس لتصدع كل مراكز الحكم لقراره. الآن لم يكد الاخوان يصلون إلى الحكم حتى أذعنت قوى الأمن لكن عنف أجهزة الأمن في الاتحادية ومحمد محمود وبورسعيد والمحلة يبدو فادحاً ومتعسفاً ومفرطاً وغير مسبوق في مصر، إلى درجة تدعونا إلى التساؤل عن الأسباب، هل هي التعصب الحزبي أم هي ضراوة المتظاهرين واستخفافهم أم هي ارتباك رجال الأمن وعجزهم عن ان يمثلوا النظام والتصرف بهذه المسؤولية. قد تكون الأسباب مزيجاً من كل هذا، لكن القتل بالعشرات وصمود المتظاهرين مع ذلك وتجاسرهم على تحدي الاخوان أمام مقرهم بل والذهاب إليهم في مقراتهم، أضف إلى ذلك قيام مدنيين مسلحين بدور الميليشيات، كل هذا يوحي أن التشكيك بشرعية الحكم قد تجاوز الشعار والتشهير الاعلامي، إنه يطبق ميدانياً وعلى الأرض، الإخوان كما يراهم المعارضون يتمترسون بالسلطة، يستعملونها لهم. هذا بالنسبة لهم واضح مفضوح. هم لا يفرقون بين المرشد ورئيس الجمهورية. لا يفرقون بين قصر الرئاسة ومقر جماعة الاخوان في المقطّم. السلطة بالنسبة لهم موصومة تماما ومسروقة تماما ومخطوفة. شرعيتها بهذا المعنى مفقودة وموضع شك أكيد. نجح الاخوان في الانتخابات بالتأكيد، يعلم الجميع ذلك، ونجح محمد مرسي في اقتراع الرئاسة، هذا معروف مشهور لكن المشكل بدأ مع محاولة الاخوان المبكرة أخونة الدولة. أي التأسيس لسلطة حزبية وهيمنة حزبية على السلطة. امتلاك السلطة واحتكارها، هنا شعر المعارضون (وهم أكثرية المدن الرئيسية والنخب المصرية) بأن ما يجري ليس الحكم فحسب بل سرقة الدولة واغتيالها والغدر بها واحتكارها. من هنا فقد الرئيس وحزبه شرعيتهما ولو انهما يتبوآن مواقع فازا بها بالانتخاب. يمكننا القول إن شرعية الانتخاب هي التي فقدت ايضاً أمام شرعية الثورة، أي فرز النخب والطلائع والشباب والمجتمعات المدينية من الشعب. الثورة هي هذه الفئات الأكثر دينامية وانتظاماً ووعياً نقدياً وقدرة على التحرك واندفاعا ولا تقليدية. هذه الفئات هي التي تواجه مباشرة سلطة الاخوان المسلمين وهي التي تمارس السياسة في الشارع وهي التي قامت بالثورة على عهد مبارك وهي التي تهب إلى الدفاع وحماية الثورة المغدورة، وهي التي امتلكت قضية ولا تزال تدافع عنها، وهي التي رسمت الافق الديموقراطي وحددت أهداف الثورة. ما يحدث الآن أن الثورة في خطر، الاخوان المسلمون يريدون ان يجعلوا الدولة ومؤسساتها وعسكريتها نهباً لهم، الاخوان المسلمون يريدون إرساء حكم عقائدي وقد باشروا ذلك من اللحظة الأولى. الاخوان المسلمون حزب أطع واسمع يمكنهم أن يتحولوا إلى مافيا هائلة للحكم وبخاصة لأن في قيادتهم صفاً من كبار المتمولين، الاخوان المسلمون هم الثورة المضادة، هم الغادرون بالثورة. الثورة معهم ستكون مخانة مغتالة. ستتحول إلى استبداد واحتكار للسلطة وتحويلها إلى ألعوبة في أيدي غيلان الحكم والمتمولين الكبار. الثورة ضد الانتخابات. لتكن، الاخوان المسلمون يشترون أهل الريف بالعمل الخيري وبالتقديمات الهزيلة. الاخوان المسلمون يشترون أهل الريف بالدعاوة الدينية. يشترونهم بانضباطهم وطاعتهم وانغراسهم في المجتمعات الريفية. هذا ما يبدو صحيحاً. الانتخابات هي الآن لمصلحة الاخوان، ما دامت الانتخابات هكذا، ينبغي أن تستمر الثورة. ينبغي أن يستمر فضح الاخوان كل يوم، فضح عنفهم وتسلطهم وتمييزهم وانتهاكهم للقانون وتحيزهم وعصبيتهم، ينبغي ان تستمر الثورة إلى ان يتم نخر مؤسسة الانتخابات او جهازها وتداعيها واستسلامها. حتى يتم تصحيح المؤسسة وحقنها بوعي آخر. حتى يتم تجميع النخب والقوى الشبابية والطلائعية وتصليبها وانتظامها. الانتخابات آخر الأمر هي الفيصل وهي المعيار لكن بعد نصف قرن من التعتيم ينبغي نضال عنيد ومثابر لإنعاشها وإحيائها وحقنها بالنظر الفردي والنقدي.
السفير