صفحات الرأي

مصر الثورة والنهضة


سليمان تقي الدين

لا تستعجلوا الحكم على ثورة 25 يناير كما استعجل البعض الحكم على ثورة 23 يوليو سلباً وإيجاباً. في مصر الآن حدث تاريخي يفوق بكثير الظواهر السياسية العابرة في الصراع على السلطة، خاصة بين الإخوان المسلمين والمؤسسة العسكرية. كلما توغل الإسلاميون في الحياة السياسية وفي ممارسة الحكم كلما انغرزت أقدامهم في أرض الواقع وانشغلوا في الإجابة على القضايا المدنية وأكسبوا «السياسة الإسلامية» طابعاً علمانياً. هم الآن في مواجهة أسئلة تتعلق بمصدر السلطة وبفصل السلطات وباستقلال القضاء وبمعايير الممارسة الديموقراطية وقضية القضايا، أي مرجعية الشريعة الإسلامية في إدارة الدولة والمجتمع.

قال الأزهر كلمته مجدداً بعد الوثيقة التاريخية التي أصدرها حول مبادئ الاجتماع السياسي (11 كانون الثاني/ يناير 2012) في بيان الشيخ أحمد الطيب. الأمة مصدر السلطات وشرعيتها ولها الحق المطلق في اختيار حكّامها، والدولة في ديار الإسلام تكفل حرية العقيدة، والبحث العلمي، والرأي والتعبير والإبداع الفني والتعددية السياسية وهذه كلها «فريضة وضرورة».

يواجه الإسلاميون في مصر اليوم اختبار احترامهم لاستقلال القضاء، ولا سيما قرارات المحكمة الدستورية العليا، كما يواجهون معركة صياغة الدستور المصري الجديد بعد تشكيل الهيئة التأسيسية الدستورية.

تتولى المحكمة الدستورية مهمة تفسير الدستور والقوانين ومدى انطباقها على المبادئ الدستورية وعلى مبادئ الشريعة الإسلامية. نحن أمام مرجع مدني لا ديني يرسم حدود الشريعة في ضبط الحقوق والواجبات. سجلت هذه المحكمة بتاريخها، خاصة منذ آخر تعديل للمادة الثانية من دستور 1971 عام 1980، سوابق اجتهادية كبيرة الأهمية حارسة لمدنية الدولة وللقيم الديموقراطية.

أكدت المحكمة في قراراتها على المبادئ العامة في الشريعة الإسلامية وليس على الأحكام الفقهية ولا الآراء الاجتهادية، لا سيما «الظنيّة» منها. في إطار المبادئ هناك ثلاثية الحرية والعدل والمساواة، كما يقول فهمي هويدي أحد المفكرين الإسلامويين. هذه المبادئ كرّستها قرارات المحكمة في: حرية الرأي، حق الاقتراع، حق التنظيم، حق الإبداع، حرية العقيدة وحرية الإيمان، الحرية الشخصية، صحة الإجراءات الجنائية واستقلال القضاء وشرعية الجرائم، قرينة البراءة وحق الدفاع المقدس، حق المرأة في العمل والتحرك خارج دائرة المنزل الزوجي، منع التمييز، حرمة الحياة الخاصة والكرامة الشخصية والخصوصية وحق الملكية إلخ.. وقد استوحت المحكمة هذه الحقوق من النصوص الفرعية، أي المواد التي نص عليها الدستور، ومن مطابقتها لمبادئ الشريعة الإسلامية وعدم تناقضها معها.

هكذا يؤكّد الشيخ أحمد الطيب على ضرورة عدم المسّ بالمادة الثانية من الدستور المعمول به الآن باعتباره المبادئ العامة للشريعة الإسلامية هي المرجعية الأساسية للقوانين، بينما يريد السلفيون تضمين هذه المادة «الأحكام الفقهية» وهي أحكام اجتهادية ليست محل إجماع ولا تتفق بالضرورة مع «مقاصد الشريعة» كما جاء في أحد أحكام المحكمة الدستورية. ولعل المادة الثانية من الدستور ستكون محل جدل في الهيئة التأسيسية. ومهما تكن النتائج، ونرجح الاحتفاظ بهذا النص، فإن حكم الإسلاميين سيفتح باباً واسعاً للحوار كمقدمة لبلورة «النموذج الإسلامي» أو الفكر السياسي الإسلامي المعاصر.

هذه هي البداية الطبيعية التي تمناها ودعا لها المفكر العربي الكبير عبد الرزاق السنهوري وهو يعد دستور 1923، أي استخلاص المبادئ الإسلامية من ركام الاجتهادات والآراء الفقهية المتناقضة والمتعارضة والموزعة على مروحة واسعة من المذاهب والتيارات والفرق والفقهاء.

مصر ومعظم دول الثورات أمام مرحلة جديدة من النهضة الفكرية التي تنتقل من النخبة الثقافية إلى النخبة السياسية، وهو الإنجاز الأكبر للثورات والتغيير. لسنا أمام تداول للسلطة يدور حول أحزاب أو قيادات منشغلة بإعادة إنتاج النظام نفسه والقواعد والقيم ذاتها. نحن أمام مشاركة شعبية واسعة تتداول مستقبل الحياة الوطنية من بابها إلى محرابها. هذه الورشة السياسية الفكرية، وبعضها له علاقة بالدستور والتشريعات وسلطة القضاء المدني والفصل بين السلطات وإخضاع المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية، هي ثمرة إيجابية من ثمار هذه الثورة، بل هي الثمرة الأبرز التي ستخرجنا من هذا «التهويل» غير المسبوق بما يسمّى الحكم الإسلامي أو الخوف من الإسلام «الإسلاموفوبيا» الذي طالما استخدمه الغرب والأنظمة الاستبدادية نفسها لمطاردة شبح التغيير.

قد يكون هذا المخاض صعباً ومحفوفاً بالكثير من «الإرهاب الفكري» الذي تمارسه بعض الجماعات غير القادرة على مواكبة هذا المسار التغييري. لكن أغلب الظن أن التراث المدني لمصر وللعالم العربي سوف يكون الأقوى في هذه المواجهة طالما أمكن الحفاظ على مناخ الحرية والتنافس السلمي بين التيارات السياسية والفكرية. قد يقال إن الثورة العربية المعاصرة «ثورة تجريبية» لا نظرية لها، غير أن هذا هو الوجه الإيجابي الذي يخفض منسوب المنظومات الإيديولوجية المغلقة أمام الحاجة إلى الابتداع والإبداع وهما ميزة كل عمل ثوري.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى