صفحات الرأي

مصر ليست عبد الناصر/ سحر مندور

في إحدى مقابلاتها القليلة، شرحت هدى جمال عبد الناصر ديكتاتورية والدها ببسيط الكلام. قالت: أبي نفذ انقلاباً عسكرياً، هدف الحريّة فيه كانت التحرّر من المستعمر. انقلابٌ كهذا، ما كان لينتج نظاماً ديموقراطياً، والغريب هو توقع ذلك منه.

تشتدّ ذكرى عبد الناصر، هذه الأيام. وهي أيامٌ تفصل ما بين موعد وفاته في 28 أيلول 1970 وموعد اندلاع حرب العبور في 6 أكتوبر 1973. وهي الأيام التي تمضي لتكمل ثلاث سنوات تاريخية من عمر ثورة مصر، مصر التي تغيّر ما بنفسها. ويأتي رفع صور عبد الناصر في الساحات العامة، كدليل على هذا التغيير. فعبد الناصر في مصر ليس عبد الناصر في أي بقعة عربية أخرى. في لبنان مثلاً، بقيت له صورةٌ تحتها شعار «في الليلة الظلماء يفتقد البدر»، أو «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة». أما عبد الناصر المصري فهو عنوانٌ لتجربةٍ كانت ممنوعة من الصرف لعقودٍ تلت وفاته.

مانع وممنوع

واليوم، بعدما سقط بعض الممنوع، يخرج كثيرون في مصر حاملين صور عبد الناصر لسببين داخليين واضحين، وليس طبعاً لمناجاة طيف الوحدة العربية وتحرير فلسطين. والسببان هما: تحدّيه للإخوان المسلمين، وإرسائه أسس العدالة الاجتماعية في مجتمع الإقطاع. في المقلب الآخر، يرى الناقدون في استعادته براهين على تخوّفهم من إعادة تأسيس الفريق أول عبد الفتاح السيسي لدولة عبد الناصر العسكرية على أكتاف الثورة الشعبية.

مُنع استحضار ذكرى عبد الناصر في مصر بعد حرب أكتوبر، وحلّت فوق قصته قراءة أخرى تمحوه من سجل الإنجاز الداخلي وتحصر دوره في شنّ حروبٍ منها المنهِك ومنها البعيد ومنها النكسة. إذ احتاج الرئيسان التاليان له الخروج بالجمهورية من «جلباب أبي»: فكانت جمهورية أنور السادات ذات الأثر التاريخي الخاص، وكانت جمهورية حسني مبارك التي جعلها الشعب بثورته عليها مَعْلماً تاريخياً.

وإذا أدّى المنع الرسمي إلى نشوء أجيالٍ مصرية منفعلة فعلياً وعن قناعة ضد جمال عبد الناصر وعهده، فذلك لم يكن السبب الوحيد خلف تجهيل الذكرى في العقود القليلة الماضية: الناس كانوا منهكين من ملاحقة الحياة، لا يطيب لهم استحضار أيّ ذكرى فيها تعب. وذكراه منهكة، وقد باتت بعيدة عن واقعهم. عند طرح اسمه، كانت النظرة في عيون الناس تشي بفتح ملفات مركونة في بعيد الذاكرة: هذا مناضلٌ عمّالي قديم يكنّ له كثير الحب والإعجاب، وهنا شبابٌ كثر يحكون عن الرمادي الخانق في عصر عبد الناصر مقارنةً بسوق الانفتاح التي أتاحت الفردية، وهذا شاب يكرهه لسجن والده الشيوعي حتى موته، وهذه سيدة تبغض فيه توزيع «الثروات» المفاجئة على الفلاحين، ما غيّر شكل المجتمع المصري بلا تنسيق أو توطئة، وهذا ضابط طيّار يحتضن ذكرى الرجل الذي سلّمه شهادة تخرّجه، ويبتسم قبل أن يتنهد ويقول: بس كفاية كده.. كفايانا عسكر.

كانت كفة مصر حينها تبدو وكأنها تميل ضده، أو خارجه. ولكن، في الحقيقة، كان شعب مصر قد كفر بشعارات الفخر والتحدّي والبناء التي بقيت تتردد في فضاءٍ أجوف بعدما وأد النظام الحركة الإنتاجية، ووأد معها جزءاً من الشعب تفجّر لاحقاً من تراب المقابر والعشوائيات. شعب مصر، كان يتلقى حرباً شنتها دولته عليه، فلم يكن فيه نفسٌ ليستدعي ذكرى عبد الناصر أو سواه، ولو لنقاشها كموضوعٍ خلافي. وهكذا، بدا عبد الناصر في مصر قبل 25 يناير كصورةٍ أبيضها وأسودها لا يهمّان إلا قلّة.

وتراكمت الأيام حتى كانت لمصر ثورة. ثورة أعادت وصل الناس بالشأن العام أولاً، ثم بماضيهم. تراهم يستمدون منه الطمأنينة بينما يتجهزون للانتقال إلى المجهول. والقلّة التي كانت ترفع صور عبد الناصر في الميادين، تحوّلت إلى كثرة في مواجهة «الإخوان المسلمين». سخرية القدر جعلت «الجماعة» هي أحد أبرز أسباب استعادة المصريين لقصة عبد الناصر اليوم. وبينما الأكثرية تجد في قصة عبد الناصر دليلاً على ضرورة اجتثاث «الإخوان» من المجتمع، فإن أقلية اليوم تجد الخطأ في تلك الآلية، وهو بالنسبة إليها خطأ مستمر منذ عهد عبد الناصر، وقد أنتج واقعاً مريضاً احتاج ثورة، ويجب تفاديه في التجهيز للغد.

عسكر اليوم

المصريون انفعاليون، وأحياناً ينفعلون جماعيّاً إلى حدّ مرعب، فيصطدم المرء برأي عامٍ يشدّ بغالبيته نحو منع الأقلية من تلطيخ الإجماع بالاختلاف. لكن الأمانة تقتضي استعادة التجارب القريبة في الزمن التي توضح أنهم قادرون على تصويب دفتهم نحو استيعاب الأقلية. إذ هجوا اللاجئين السوريين يوم تواجد سوريون في ميدان رابعة العدوية، ثم انصتوا للأقلية المناهضة لهذا الهجاء واقتنعوا، حتى سكن الهجاء. وكذلك هي الحال مع الفلسطينيين، إذ ترى فناناً جماهيرياً كعمرو واكد يخوض يومياً حربه على مواقع التواصل ضد الخطاب الذي راج لجهة تحميل فلسطين والفلسطينيين تبعات تحالف مرسي مع «حماس»، وهو ليس وحيداً في ذلك، وهو يلقى تأييد متابعيه الواسع. فحتى مقدّم البرامج المصري عمرو أديب، الشعبوي جداً، والشعبي جداً أيضاً، يصيح هذه الأيام ضد ترشّح السيسي لموقع الرئاسة، وقال إنه مستعد لأن يخوض المعركة الانتخابية ضده إذا قرر المرشّحون المدنيون الانسحاب للجنرال. هذه القصص، والكثير سواها، هي حركات بسيطة تطمئن النفس إلى غد مصر. ولكن يبقى السبب الأول للاطمئنان في راهن مصر، مشهد جسّدته تظاهرة الذكرى الأولى لثورة يناير في 25 منه 2012. يومها، خرج «الملايين» عن صمتهم المتواطئ مع «المجلس العسكري»، ضد ثوريي محمد محمود الرافضين لكيفية طهو الأمور في الغرف المغلقة بين العسكر و«الإخوان». ويومها، كانت المواجهة الفعلية الأولى مع «الإخوان» بعدما برّروا قتل الناس واعتقالهم بتهم البلطجة، فطردتهم تجمّعات أمهات الشهداء من ميدان الذكرى، وكانوا فيه يحتفلون بحلول الديموقراطية. ويومها، نُكّس هتاف «الشعب والجيش إيد واحدة»، لصالح الهتاف البليغ الموجّه للحاكم، منذ عهد عبد الناصر وحتى يومنا هذا: «يسقط يسقط حكم العسكر، مصر دولة مش معسكر».

الخطاب المؤيد للعسكر سائدٌ اليوم وأسبابه واضحة، وهو حقيقي وذو صدى واسع جداً في المجتمع المصري. والخطاب المناهض تماماً للعسكر حاضرٌ، وله مساحته في المجتمع المصري. لكن المسألة والنقاش يحتاجان إلى جهد وصبر، وهما ضروريان في أي مرحلة، فكيف بالمرحلة التأسيسية الراهنة؟ المؤسسة العسكرية هي عماد الدولة المصرية الحديثة، وإخراجها من السلطة السياسية سيتطلب هذين الجهد والصبر، خاصة إنها مؤسسة ذات عقيدة كالدين لا تحتمل المعارضة أو الاختلاف. وأغلب الظن أن الشعب المصري يميل إلى هذه الكفة، ولو أن المبالغة الانفعالية العاطفية هي سمة من سماته، فتراه ينفعل «سيسياً» في مواجهة «الإخوان» والرافضين لقرار طرد «الإخوان» من الحياة العامة، وكأن ذلك نهاية التاريخ.

ناصر هذه الأيام

يراهن الناصريون اليوم على أن مصر «تسعيد روحها الناصرية». وكأن مصر كانت تائهة عن ذاتها، هائمة على وجهها، حتى وجدت في عبد الناصر هويتها وخلاصها. والحقيقة أن القصة التي أنجبت عبد الناصر، قد أنجبت بدورها التتمات. والناصرية، كمزيج «ذي وجهٍ إنساني» من الاشتراكية والقومية والعسكريتاريا، لم تتطور لتصنع معادلة تناسب الراهن وتحديّاته. وإنما حفظها ناسُها كما السلفيون، في حدود جسم رجلٍ «يجب» على الأجيال أن تتعلّم منه وتنفذ أقواله وتكرر أفعاله. بذلك، هم واهمون طبعاً إذ يتحدّون الطبيعة، لكن النصف الملآن من الكوب يقول إنه يمكن للناصريين أن يبقوا أكثر حسّاسية في صناعة الحاضر والغد تجاه هذه الخبرات والأفكار. ولربما تتطور مع الأيام نظريتهم، بعدما خرجت بقوة ثورة شعب مصر من ملفات الممنوع والمجهّل.

فيمكن للمرء أن يرث من عهد عبد الناصر معلومةً تفيد بأن التعليم المجاني ذا المستوى التربوي المحترم يمكن أن يُحلّ بسحر الساحر، إذا اتخذ المسؤول عن إدارة الحياة العامة قراراً بذلك. والطبابة كذلك. الأراضي، يمكن توزيعها على ورثتها الأصليين، الفلاحين، ولن يكون ذلك كفراً بناموس الدنيا. الفن، يمكن دعمه والدفع به نحو إزدهارٍ عظيم، من مؤسسة السينما العامة التي أنتجت في مراحل أجود أفلام مصر، إلى الأدب والغناء والموسيقى والرقص والتلفزيون والراديو. وبمرافقة ذلك، يمكن للمرء أن يخوض الحرب الاجتماعية ضد ممارسات الاعتقال والتعذيب، ضد إجبار المواطنين على التجسّس على بعضهم البعض داخل مؤسسات المجتمع، ضد الإنهاك الاقتصادي كرمى للمجهود الحربي، ضد الهوس بالصيغة الوحدوية القومية، ضد الظلم الذي تلقاه الآلاف والذي يصنع الغصّة في كل قطاع ازدهر آنذاك، كالفن: فاسماعيل ياسين جرّدته مصلحة الضرائب ظلماً من ثمرة عصاميته ومات بقهره، ومحمــد فــوزي مات كئيباً مهزوماً بعد تعييــنه ناظــراً لاستــديو بنــاه بعــرق الجهـــد ســنة تلو الأخــرى فصــادره «التأمـــيم».

إن قصص مصر كثيرة جداً، وعبد الناصر كتب إحداها بحلو الكلام وبمرّه أيضاً. ومن كان ليفكّر بقصةٍ ولو رمزية تقول: بينما كان محمد مرسي يهتف ضد «الستينيات وما أدراك ما الستينيات»، كان شقيقه يخبر التلفزيون أن أخاه الرئيس قد تعلّم بفضل الأرض التي منحها عصر الإصلاح الزراعي لوالده؟ إن عبد الناصر هو إحدى هذه القصص المصرية، لا هو مخلّص المحروسة ولا كان شيطانها، وإنما هو الرجل الذي عاش متوسط الحال ومات متوسط الحال، أخطأ كثيراً وأنجز الكثير، ما منحه طيب الذكرى في بلادٍ يُجهز حكّامها على شعوبهم.. يجهزون علينا فعلياً، وليس رمزياً.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى