مصوّر الثورة السورية زكريا عبد الكافي:صوري تطارد جرائم الأسد
بوعلام رمضاني
يعتبر في نظر” الأسديين” عميلا لوطنه سورية الذي فقد فيه عينه اليمنى أثناء تصوير إحدى المعارك الشرسة بين الجيش النظامي والجيش الحر، ويعد بطلا بكل المعايير في تصوير معارضين كثر عاشوا وعايشوا قمع ودموية وتنكيل حكم ديكتاتوري قبل ظهور داعش التي ما زال يبرر بها الحكم السوري “صحة نهجه” الإجرامي على حد تعبيره .
إنه المصور الحربي الشاب زكريا عبد الكافي البالغ من العمر 31 عاما، والحي العجيب الذي يرزق في فرنسا التي “يخون” فيها وطنه، كما يقول حكام عرب عن كل معارض رفض فسادهم وناهض حكمهم العصبوي والمذهبي والمافيوزي، تحت غطاء خطاب الممانعة ومواجهة المؤامرات الخارجية غربيا وعربيا . زكريا يقدم معرض صور “أنا من هناك …أنا من حلب” في مدينة فولوز شرق فرنسا منذ الثاني عشر من الشهر الماضي وحتى الخامس والعشرين من الشهر الجاري، وهو المعرض غير العادي مثل صاحبه الذي لم يكن من السهل عليه أن يدلي بحديث صحفي ليس ككل الأحاديث.
لماذا؟ ببساطة شديدة لأنه لم يكن من الممكن إنسانيا وعاطفيا أن يرد على أسئلة “ضفة ثالثة” من دون فتح جرح مشرع على مأساة وطن أضحى خرابا “غرنيكيا” كما جسده في صوره . في باريس التي (تآمرت على “الأسدية المقاومة” قبل أن تلتحق ماكرونياً بركب حماتها من خطر داعشي عالمي لا يستهدف سورية فقط حسب المعلم وبثينة)….. تحدث زكريا عن تاريخ ومسار حياته وسط اللهيب والدمار في حلب كمواطن غير داعشي وكمصور مقاوم للأسد، وعن كيفية مشاركته في حرب جهنمية وانبعاثه من الرماد حيا كالعنقاء.
تحدث ابن حلب الشهيدة عن صوره المرعبة معلقا عليها متقطع الأنفاس وقامعا للدموع في سياق رده على أسئلتنا، وممثلا دورا تراجيديا يقارن بسهولة بما عرفه المسرح الإغريقي. لكنه قبل فقدان عينه اليمنى، ككلفة غالية الثمن ولكنها أقل مما حاق بملايين من السوريين الأبرياء الذين لم يحصل لهم شرف الموت بكامل أعضاء أجسادهم أو تحت تعذيب نادر البشاعة. زكريا الذي جاء إلى باريس قادما من تركيا لإنقاذ ما يمكن من عينه ….كان ينوي العودة إلى حلب لكن ظروف الحرب وتغير المعطيات وإلحاح العائلة شكلت كلها كوكتيل عوامل فرضت عليه البقاء في العاصمة الفرنسية. بعيدا عن حلب التي رفضت موته على بعد أمتار قليلة من خطوط نار المعارك والموت اليومي، يستمر زكريا في استكمال رسالته ضد التضليل الأسدي بصوره التي يوقظ بها أجانب راحوا ضحايا تقلب أخلاقي جعل من الأسد ضحية وليس جلادا لم يعرف العالم نوعه إلا نادراً.
هنا نص الحوار:
*في البداية كيف يقدم زكريا نفسه شخصيا، عائليا ومهنيا “لضفة ثالثة”؟
أنا من مواليد حلب وابن عائلة بسيطة اجتماعيا، ووالدي لم يكن من أزلام النظام واضطر أن يترك عمله كمهندس في الدولة، وأنا اشتغلت معه في محلنا التجاري لبيع القراطيس والأدوات المدرسية، وكان يقص علي وقائع عاشها في العمل الذي لم يكن يخضع لمعايير الكفاءة، بل الولاء الأعمى للنظام الطائفي هو المعيار الأول والأخير للترقي، الأمر الذي عمم الفساد على كل المستويات.
*هل أفهم أنك لم تعمل مصورا في ظل النظام قبل اندلاع الثورة؟
أعوذ بالله، نظام مثل النظام السوري لا يسمح بتصوير الحياة الاجتماعية حتى وإن تعلق الأمر بأبسط الجوانب الاجتماعية. المخابرات هي سيدة الموقف في الأحياء والشوارع، وعليه لا نستطيع التحدث عن مهنة تصوير بأتم معنى الكلمة قبل الثورة باعتبار المصور عين المجتمع. الرعب الذي كان يسكن قلوب الناس في كل الأوقات دفع بأبي أكثر من مرة إلى تحذيري من مغبة المغامرة بتصوير أي مظهر سلبي من مظاهر الحياة اليومية تحت وطأة ولعي يالتصوير مبكرا، الأمر الذي أجبرني على الاكتفاء بتصوير الطبيعة ومباريات كرة القدم من باب الهواية لا غير.
*أفهم أن ولادتك المهنية كمصور تؤرخ للثورة وأنك لم تكن مواليا للنظام يوما ما!
أبدا ..أبدا وإلا كيف نفسر مشاركتي منذ اليوم الأول في مظاهرات سلمية ضد النظام في حلب إلى جانب آخرين لم يكونوا إسلاميين مثلي. كما ذكرت تستطيع القول إن الثورة هي التي صنعت مني مصورا محترفا، الأمر الذي يسعدني لانني أعتبر نفسي مناضلا من أجل سورية حرة، وشاهدا على وحشية النظام المسؤول عن توظيف وحشية داعش لتحويل مجرى ثورة سلمية. ويؤلمني الأمر نفسه لأن صوري تؤرخ لفصول مأساة إنسانية لا يمكن نسيانها لبشاعة ما عكسته من قتل وخراب ودمار، وأنا شخصيا أعيش اليوم بانعكاسات نفسية يستحيل تجاوزها مهما أوتي الإنسان من قوة ورباطة جأش، لأنني لم أصور فقط المعارك بين الجيش النظامي والجيش الحر منذ البداية، وصورت أيضا الجثث الممزقة والأشلاء والقصف المتبادل وصراخ الشيوخ والنساء والأطفال ودمار المباني وعمليات الإنقاذ والعلاج، إلى جانب مظاهر العيش المستحيل الأخرى التي أضحت أمرا ممكنا بعد أن أصبحت الحياة مرادفة للموت العادي، وأنا شخصيا نجوت بأعجوبة من الموت أثناء تصويري إحدى المعارك بحي صلاح الدين، والعين التي فقدتها هي أقل ما يمكن أن أضحي به من أجل حرية بلدي وقصتها فتحت بصري على بشاعة نظام يسحق شعبا كاملا من أجل الاستمرار.
*تستحق قصتك الشخصية أن تسرد من منظور المصور والمقاتل بالكاميرا في الوقت نفسه فمتى حدثت الإصابة وكيف؟
كان ذلك يوم 15 سبتمبر عام 2015 أثناء معركة بين الجيش النظامي والجيش الحر الذي كنت أنتمي إليه سياسيا. بعد ساعات من المواجهة بين جنودنا الذين كانوا يحاولون استعادة مواقع للجيش النظامي، اشتد إطلاق الرصاص بين القناصة الذين كانوا على السطوح وبين عناصر من الجيش الحر، وأسفرت المواجهة في الأرض عن إصابة ثلاثة منهم على مرآي ومسمعي. (وقف زكريا لتمثيل لحظة إصابته بطلب منا واستطرد بقوله): “أمام هول المشهد وتزايد إطلاق النار وتعالي صراخ جنود الجيش الحر لسحب المصابين الثلاثة ولدعوتي إلى عدم التقدم من أجل التصوير ….لم تأمكن من ضبط الإطار المناسب والإضاءة واقفا وحاولت الجلوس في مدخل بناية قريبة من موقع المواجهة، وعندها ارتدت رصاصة ضربت بابا حديديا محولة مسارها نحو عيني اليمنى في الوقت الذي كانت فيه اليسرى مغطاة بعدسة الكاميرا. (عاد زكريا إلى الجلوس وتقرب مني ليريني عينه الاصطناعية التي لا يبصر بها، وتشكل “ملحقة ديكورية” عوضت عينه الطبيعية التي طار منها الجزء الأكبر، الأمر الذي أغمي عليه بعدما صرخ متألما وليس نادما). بعد أن أبدى تأثرا كان منتظرا …استعاد أنفاسه وأمضى يسرد فصول كابوس سحبه من بناية إلى بناية لإخراجه من منطقة المواجهة الحربية ونقله إلى إدلب قريبا من الحدود التركية لاستئصال عينه الطبيعية واستبدالها بأخرى لتزيين وجهه فقط!
*هل من علاقة بين تواجدك اليوم في باريس واستمرارك في العلاج أم إن عوامل شخصية ومهنية دفعت بك إلى البقاء في العاصمة الفرنسية؟
بما أنني كنت أتعامل مع عدة وكالات وقنوات ومن بينها وكالة الأنباء الفرنسية، تم الاهتمام بي بمساعدتي على السفر إلى تركيا ومنها إلى باريس التي وصلتها في 20 ديسمبر 2015 طلبا للعلاج وأملا في استعادة البصر ولو بنسبة 10 أو 20 في المائة! ومن يومها أنا مقيم فيها بعد أن حصلت على اللجوء السياسي وأتعاون مهنيا مع وكالة الأنباء الفرنسية. إلى جانب عملي .. أقوم بمعارض ومحاضرات ولقاءات فكرية وإعلامية مع فرنسيين وعرب سوريين من كافة الشرائح الاجتماعية معرفا بحقيقة الصراع المأساوي في بلدي خلافا لما تروجه الآلة الإعلامية السورية والأبواق الموالية له، وعلى تصحيح نظرة الغربيين والفرنسيين بوجه خاص لأطراف الصراع بغرض تجاوز فكرة المؤامرة على نظام أجرم في حق السوريين قبل ظهور داعش وحتمية تفضيله النسبي على وحوشها الخارجين من رحم زنزاناته، والذين تم إطلاق سراحهم لإجهاض وتشويه ثورة سلمية كان لا بد أن تنفجر.
*ألا تخشى أن يقال عنك كما يروج النظام السوري عن المثقفين المعارضين الذين يعيشون في أوروبا أنك بقيت لأسباب شخصية ومهنية ولأن التهمة جاهزة كما تعرف كيف ترد وماذا تقول تحديدا؟
أولا أنا حاربت بصدر عار كما فعل الشعب السوري عند انطلاق الاحتجاجات السلمية حاملا كاميرتي في صفوف جيش انشق عن حكم الطغمة الحاكمة. لم أكن أفكر يوما ما في ترك بلدي الحبيب لولا الإصابة التي لحقت بي، والذي يحرم من ابنيه وزوجته وعائلته لعدة سنوات ويتحدى المخاطر والموت من أجل بلده لا يمكن أن يتغير بالسهولة التي يروج لها أعداء الوطن، وأن يدعي العيش بسعادة بعد كل ما رآه من دمار ووثقه بالصوت والصورة للعالم. إن تعطل العلاج هو الذي تركني أبقى في باريس ووالدي ألح علي حتى لا أعود للجحيم، ومع استمرار أشكال العلاج أصبح التفكير في التوفيق بين حياتي المهنية والصحية خدمة لثورة بلدي أمرا وجوديا موضوعيا. بعد أن صبرت على الغربة القاسية التي تبقى تطارد ضحيتها مهما أوتي من سبل للتحايل على نفسه …قررت البقاء بعد أن حللت حجم وأهمية الخدمة التي أقدمها لبلدي في باريس كمصور أصبح يسيطر على مهنته. أنا شقيقي مفقود خطف بسببي ولا شك أنه في دار الحق مع الشهداء، والمعتوه فقط هو الذي يعتقد أنني بقيت طمعا في مادة أو شهرة وعودتي اليوم إلى سورية لا تفيدها، في حين أن نشاطاتي اليومية تفضح النظام الفاسد الذي يعتقد أنه انتصر بعد أن دمر بلدا كاملا وقتل وشرد الملايين من غير الداعشيين الذين استعملهم كفزاعة بتواطؤ عالم منافق يدعم من يحقق أهدافه كما قلت لفرنسيين وأجانب أثناء عرض وشرح صوري في المعرض الحالي الذي تحتضنه مدينة فولوز شرق فرنسا.
*اليوم أصبحت مصورا محترفا شهيرا وسفيرا للثورة السورية وصورك ستبقى ماثلة في أذهان الناس وتحارب بها خطاب المتاجرين بالقطبية المقيتة التي يروج لها النظام السوري (سورية الأسد ضد داعش). من هذا المنطلق ألا تعتقد أن وجودك اليوم في باريس متعدد الخطورة على النظام السوري لأن مهنتك شعبية وليست نخبوية فقط كما هي المهن الفكرية لعدد كبير من المثقفين السوريين المعارضين، وشخصيا شاهدت عملك الرائع مع المؤرخ المعروف جان بيار فيليو الذي يتحدث اللغة العربية، ومعروف بموقفه الفكري المعادي للطرح السوري الرسمي والمناقض لتحليل الكثير من المثقفين الفرنسيين. ما تعليقك؟
أنا سعيد بهذا السؤال المهم وأسعد لأنك أثرت اسم صديقي جان بيار فيليو الذي عانقني بعد وصولي إلى باريس باكيا. فيليو رجل عظيم ولا أقول عنه هذا الكلام لأنه صديقي وكتب عني مقالا مذهلا في صحيفة “لوموند” تحت عنوان: “صديقي زكريا الذي نجا من الموت بأعجوبة” فهو مثقف كبير ومؤرخ لم يزيف الثورة السورية ولم يصطف في طابور المثقفين الايديولوجين الذين يبنون مواقفهم على خلفيات فكرية جاهزة عن الإرهاب كما تروج له الأنظمة العربية والإسلامية الإرهابية بطبيعتها. عملي الإعلامي الهام مع فيليو والمصور العالمي يان برتران ارتوس (يعرض حاليا في ميترو باريس) يعكسان وحدهما أهمية وخصوصية الخدمة التي أقدمها لبلدي كمصور يلتقي عامة وخاصة الناس، كما جاء في سؤالكم لا أبالغ إذا قلت لك إن أستاذي في اللغة الفرنسية بجامعة باريس 8 يقول لي: “أنت ليست مصورا عاديا لأنك أصبحت نجماً” وفعلا هذا ما أصبحت أشعر به بتواضع، وأنا أتلقى تحيات الناس في الشوارع والمقاهي والميترو ولا يمكن أن أنسى الأسر الفرنسية التي تنافست من أجل إيواء مصور سوري، وبقدر ما أعتز بالعلاقات الكثيرة والهامة التي ربطتها في وسطي المهني وفي أوساط فكرية وإعلامية بقدر ما أفتخر بعلاقاتي الاجتماعية مع عامة الناس.
*حتى لا يتبادر إلى أذهان البعض أنك أصبحت نجما (بصورك عن الثورة السورية الأمر الذي يغيب عنصري الكفاءة المهنية والجودة الفنية)، هل لك أن تحدثنا عن مرحلة العمل كمصور في باريس وخاصة بعد الضجة العالمية التي أحدثتها صورة الشرطي المحروق التي التقطتها خلال مظاهرات عيد العمال في باريس؟
أشكرك مجدداً على السؤال الذي كنت أنتظره بفارغ الصبر فعلاً. بتواضع ودون غرور أؤكد أن هذه الصورة التي تناقلتها وكالات العالم ونشرت في أهم الصحف الأميركية والفرنسية هي التي تمثل مبرر سعادتي اليوم، ليس لأنني أثبتت وجودي كمصور محترف تفوق على عشرات المصورين الأجانب فحسب، بل لأنني امثل ثورة شعب عربي اختزل داعشيا واغتصبت ثورته بتواطؤ عالمي بغيض. أنا اليوم لا أمثل نفسي ووجودي في باريس ليس وجودا شخصيا، وهو تكريم لأصدقاء قتلوا تحت التعذيب، وللسوري الذي التقيته مؤخرا في ليون محفور الرأس بسبب التعذيب، ولأخي الذي التحق بشعب سحق باسم خطاب أسدي كاذب وصور معارضي وأفلام فيديوهاتي لا تعتبر عملا عاديا لأنها تؤرخ لمأساة إنسانية بأتم الكلمة، وسيبقى وجودي هنا في باريس وتجولي عبر فرنسا والعالم مرادفا لنضال آخر يفند دعوشة الثورة السورية، وهذا ما تأكد عند المؤرخ جان بيار فيليو الذي لن أملّ من تكريمه.
*قرأت أنه كتب عنك بعد التقاطك صورة الشرطي المحروق خلال مظاهرات عيد العمال “المصور السوري صاحب العين الواحدة تفوق على مصورين كاملي البصر”!
تمام ….تمام ولهذا قلت إنني نجحت ونجاحي هو نجاح كل السوريين والشرفاء حيثما كانوا والذين لا يناهضون الباطل بازدواجية أيديولوجية مقيتة، وهي الازدواجية التي أضحت مكشوفة وصارخة في الحالة السورية التي تنسحب على بلدان عربية وإسلامية تحكم بالحديد والنار، بالمناسبة وإذا سمحت أضيف أنه لا يمكن أن أنسى فلا أكرم كبير المصورين اللبنانيين باتريك باز الذي كونني وساهم في تطويري مهنيا بشكل غير معقول.
*أخيرا ما هي الصورة الأقرب إلى نفسك من منظور يخصك وحدك ضمن كل الصور التي التقطتها وسط اللهيب والدمار والموتى والجرحى في حلب؟
بعد صمت رهيب متبادل أثناء فتحه ألبوم صور الثورة السورية قال بصوت مبحوح لا يكاد يسمع: “انظر كل الصور فظيعة ومفجعة فكيف تريدني أن أفضل صورة على أخرى. إنها صور الحافلات القديمة التي استعملت كحاجز ضد الجيش النظامي وسائق التاكسي الذي أخطأ الطريق ولقى حتفه بعد تلقيه رصاص القناص رغم خروجه من سيارته عاري الصدر، ودمار المباني وبقاء الجثث تحت الركام وسقوط الصواريخ ونقل الجرحى والموتى، وصور أخرى لا تخدم نفسيا صاحب الروح المرهفة وغير المرهفة.
ضفة ثالثة