إياد الجعفريصفحات العالم

مصير”ورقة حدود إسرائيل/ إياد الجعفري

 

 

بعد هدوءٍ مُستديم لأكثر من أربعة عقود، تشهد حدود هضبة الجولان المحتل، من الجانب السوري، تطورات ميدانية غير مسبوقة، قد تغير، عما قريب، من معادلة ميدانية – سياسية تاريخية حكمت العلاقة بين نظام الأسد وبين الكيان الإسرائيلي، طوال العقود الأربعة الماضية، مفادها حفظ أمن الحدود، مقابل استمرار النظام.

يرفض الكثيرون من المراقبين الموالين للنظام وحلفائه الإقرار بوجود هذه المعادلة، متذرعين بحجج عدّيدة، منها أن النظام دعم المقاومة اللبنانية ونظيرتها الفلسطينية، وهدد أمن إسرائيل في بقع عديدة أخرى، ليس من بينها هضبة الجولان، لأنه لم يكن يريد الاشتباك بصورة مباشرة مع إسرائيل، وتعريض سوريا لمخاطر حربٍ شاملةٍ.

التبرير السابق صمد طويلاً، وبقوة، في مواجهة السؤال المتكرر من جانب منتقدي النظام: لماذا لا يفتح “نظام الممانعة” جبهة الجولان؟…لكن بعد اندلاع الثورة في سوريا، وفي أيامها الأولى، وفي سياق الارتباك الذي ظهر حينها في تصريحات وتحركات مسؤولي النظام، صدرت “زلة” على لسان رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، والواجهة المالية والاقتصادية لحكم آل الأسد وشركائهم من آل مخلوف. يذكر الجميع “زلة” رامي الشهيرة في حوار مع صحيفة أمريكية، تلك “الزلة” التي أزعجت الموالين قبل المعارضين، والتي أكد فيها رامي أن انعدام الاستقرار في سوريا سينعكس على أمن إسرائيل.

ورغم التأويلات المختلفة التي صدرت حينها عن موالين للنظام حيال تصريحات مخلوف تلك، إلا أنها لا تفهم إلا بسياقٍ واحدٍ فقط، وهي أن النظام يساهم في تحقيق أمن إسرائيل.

“زلة” رامي مخلوف تلك أكدت أمراً كان الكثير من المراقبين المحايدين يُجمعون عليه، لكن التطورات الأخيرة على جبهة الجولان قد تغيّر من تلك المعادلة التاريخية التي لطالما حكمت العلاقات غير المُعلنة بين نظام الأسد وبين الكيان الإسرائيلي. فأمن حدود إسرائيل لم يعدّ في قبضة النظام.

لذلك يمكن أن نفهم لماذا يستشرس نظام الأسد اليوم في محاولات استعادة المناطق المُلاصقة للشريط الحدودي مع إسرائيل، بعد أن سيطرت عليها “جبهة النُصرة”. فورقة أمن إسرائيل، على صعيد ضبط حدود الجولان، لم تعدّ إحدى الأوراق التي يمكن للأسد أن يُساوم بها الغرب وإسرائيل.

إسرائيل من جانبها، لا تُبدي قلقاً شديداً حيال سيطرة تنظيم “جهادي” محسوب على “القاعدة” على جزء واسع من الجانب السوري من الجولان. إلا أن تلك الجبهة (جبهة الجولان) لم تعدّ اليوم، كما كانت لعقود، الجهة التي يطمح أي عسكري إسرائيلي بالذهاب إليها، نظراً لهدوئها، حتى باتت سمّة الهدوء تلك مثاراً للتندر، بحيث قِيل بأن الجنود الإسرائيليين يفضلون جبهة الجولان لأنهم يستطيعون فيها قضاء أوقات طويلة في “تسمير” أجسادهم تحت أشعة الشمس.

إذاً، ما يظهر في الأفق حتى الآن، أن نظام الأسد خسر ورقة “ضبط” حدود إسرائيل في الجولان، وخسر القدرة على المساومة في هذا المجال. وهنا يجب أن نفهم أن النظام خسر الدور الإيجابي في المنظور الإسرائيلي، أما دوره السلبي الممكن، بأن يفتعل الإشكاليات على الحدود، كما حدث مراراً في الفترة الأخيرة، ليرسل لإسرائيل رسالة مفادها أنه قادر على تعكير صفو أمنها، فهو دور وضعته إسرائيل منذ أمد في حسبانها، واستوعبت رسائل النظام العديدة في هذا المجال، ولا بدّ أنها استعدت لكل الاحتمالات على هذا الصعيد. من بينها توجيه ضربات عسكرية لقواعد النظام قرب الحدود، كرسالة تحذيرية، من مغبة التمادي في إطلاق القذائف المقصودة، أو غير المقصودة، على الأراضي الواقعة في الجزء المحتل من الهضبة، وهي رسالة “مُتعدية”، لا بدّ أن النظام يفهم تماماً فحواها، بمعنى أن التمادي في ذلك، قد يدفع إسرائيل إلى توسيع المجال الجغرافي لضرباتها، مما يشكل تهديداً عسكرياً، نظام الأسد بغنى عنه الآن، دون شك. لذلك يمكننا أن نقول بأن نظام الأسد فقدَ القدرة على المساومة في ما يتعلق بملف “حدود إسرائيل” في الجولان.

لا يبدو أن إسرائيل خائفة من تهديدات النظام غير المباشرة بتعكير صفو الهدوء على جبهته، كما أنها لا تبدو، كما يظهر في إعلامها وتصريحات مسؤوليها، خائفة من تداعيات سيطرة “النُصرة” على الجانب السوري من الحدود.

الحيز الأخير تحديداً يتطلب الوقوف عنده مطولاً. إعلام النظام يتحدث، في هذا الحيز، عن تعاون إسرائيلي غير معلن مع “النُصرة”، في سياق “مؤامرة” تُعتبر فيها التنظيمات “الجهادية” شريكاً للكيان الإسرائيلي. بطبيعة الحال، بروباغندا النظام في هذا الحيز غير مقنعة لأي مُطلعٍ مبتدئٍ على أفكار وقيم الجهاديين الذين باتوا اليوم على الطرف السوري من الحدود مع إسرائيل.

لماذا لا تشعر إسرائيل بالفزع من سيطرة إحد فروع “القاعدة” على الحدود معها؟

قد يصعب اليوم الجزم بذلك، لكن هناك تأويلات عديدة، قد يكون أحدها البراغماتية الواضحة التي أبدتها “النُصرة” في صراعها المسلح داخل الميدان السوري، تلك البراغماتية التي ستدفعها لتركيز جهودها على الصراع مع النظام وقواته، بدلاً من استفزاز إسرائيل بصورة تجعل مقاتليها بين فكي كماشة، قوات النظام شمال وشرق المناطق التي تسيطر عليها “النُصرة” في القنيطرة حالياً، والقوات الإسرائيلية جنوب تلك المناطق وغربها.

لكن تلك البراغماتية لا تكفي لطمأنة إسرائيل، وساساتها الذين عادةً ما يضعون خططهم وسياساتهم وفق آجال بعيدة المدى. فإذا تمكنت “النُصرة” من إحكام سيطرتها على تلك المنطقة، فهذا يعني أن ذلك التنظيم “القاعدي” سيُصبح صاحب “ورقة حدود إسرائيل”، بدلاً من نظام الأسد. ولا بد أن صانعي القرار في القدس الغربية يعلمون أن هذا البديل ليس في صالحهم على المدى البعيد.

أحد التأويلات، أن إسرائيل تعلم تماماً ما سبق ذكره آنفاً، لذلك هي لا تريد استفزاز “النُصرة” حالياً، وتريد تركها مشغولة في صراعها الميداني مع النظام. وهو التأويل ذاته الذي يجعل بقاء نظام الأسد، من المنظور الإسرائيلي، ضرورياً لتأجيل التفات “النُصرة” إلى الجبهة الإسرائيلية إلى أبعدٍ أجلٍ ممكنٍ. فطالما بقي نظام الأسد قادراً على مشاغلة “النُصرة” قرب الحدود مع إسرائيل، وتهديد تواجد مقاتليها هناك، طالما بقيت “النُصرة” غير قادرة على استثمار “ورقة حدود إسرائيل”، وبالتالي تشكيل أي تهديدٍ جدي لأمن الكيان.

لكن هل من الوارد في أروقة صنع القرار في “النُصرة” أي نيّة لاستثمار “ورقة حدود إسرائيل”؟…سؤال تصعب الإجابة عليه حالياً، لكن خطوات “النُصرة” أخيراً في قضية اختطاف الجنود الدوليين تؤشر إلى نيّة الجبهة حصر “ورقة حدود إسرائيل” في قبضتها، وربما المساومة عليها مستقبلاً، لتجنيبها تبعات الحرب الغربية المُزمعة على “تنظيم الدولة الإسلامية – داعش”. فمن المعلوم أن قرار مجلس الأمن الأخير، الخاص بمحاصرة مصادر تمويل “داعش” و”النُصرة”، وضع التنظيمين في كفة واحدة. ولا بدّ أن “النُصرة” تحاول الآن التحرر من أية محاولة لحشرها مع “داعش” في زاويةٍ واحدةٍ.

بطبيعة الحال، لا يبدو أن صنّاع القرار في القدس الغربية يفهمون أن استمرار النظام هو السبب الرئيس في تصاعد دور التنظيمات الجهادية في سوريا، أياً كانت تصنيفاتها. الجليّ حالياً أن صناع القرار الإسرائيليين ما يزالون يؤمنون بضرورة استمرار حالة الاستنزاف لكل الأطراف في سوريا، آجالاً أخرى.

حالة الاستنزاف تلك، يُعتبر نظام الأسد أحدى ركائزها. لذلك يبدو أن نظام الأسد خسر “ورقة حدود إسرائيل”، لكنه بالمقابل اكتسب ورقةً أخرى تبرر استمراره من منظور صانع القرار الإسرائيلي، ورقة “إبقاء حالة الاستنزاف” في سوريا، وتعزيزها أكثر. إلا إذا دفعت تطورات ملف “داعش” المنطقة برمتها إلى منعطفٍ آخر.

المدن

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى