مصير الشمولية الاستفرادية
د. طيب تيزيني
مع تفكك الاتحاد السوفييتي منذ عقدين ونيف، أصبح التحدث محتملاً عن مسائل كان الخوض فيها إما محظوراً، أو قابلاً للالتباس، أو قابلاً للهشاشة المعرفية الخ. فإما إنه كان محظوراً، انطلق من كون المسألة مؤسسة على الأحادية، بحيث غدا الخروج عن هذه الأخيرة نوعاً من الانحراف عن الحقيقة، في نظر المرجعيات العليا النظرية والسياسية. وأما أنه كان قابلاً للالتباس، أتى ويأتي من حصر آفاق المعرفة وخياراتها في واحد منها. وأما – أخيراً – أن تكون المسائل قابلة للهشاشة المعرفية، فإن هذا يعني الخروج من دائرة المصداقية المعرفية. ولهذا عادة ما يؤكد على الموضوعية الصارمة في النظر إلى الأمور وفي البحث العلمي تحديداً.
وكما يتضح الأمر، فإن الاستبداد الذي يعني، هنا، الاستفراد بالرأي، يؤدي إلى نتائج كارثية بأثمان غالية لدى مَن يخضع لهذه الدائرة، سواء اتصل ذلك بالسياسة أو بالاقتصاد أو بالفكر وغيره. وإذا كان الاستفراد يفرض نفسه حتى بتكريس قانوني يجعل من الحزب أو التنظيم سيد الموقف ومعيار المواقف الصحيحة في مجتمع ما، كما هو في المجتمع السوري، على مدى نصف قرن تقريباً، فإنه يكون قد تجاوز “الحس السليم” أولاً، وتطاول على حقوق الآخرين ثانياً، وهيأ لما يمكن أن يأتي من كوارث على المواطنين ثالثاً. وهذا يدعونا للتمعن في نموذج الشمولية الاستفرادية (الاستبدادية)، الذي يُنجز تلك النقاط الخطيرة بكيفيات مختلفة من بلد إلى آخر.
وسنأخذ الآن نموذجاً فظيعاً في صيغته ودلالته، وذلك فيما جاء على ألسنة بعض أنصار “حزب البعث” في تاريخ 2012/2/4 بمدينة طرابلس – لبنان وربما كذلك في بيروت بمناسبة تأييد النظام السوري ورئيسه. فقد جاء الشعار التالي تعبيراً عن ذلك “الشبيحة للأبد.. كِرمال عينك يا أسد!”. ففي التدقيق بهذا الأخير يتبين للباحث والمرء عموماً كم هو مُرعب أن يتحول حزب نشأ عام 1947 وقدم نفسه بوصفه حزباً قومياً عربياً وضع استراتيجيته على أساس تحقيق الوحدة العربية، على هذا النحو. فالبؤس يتجلى في انتهاء هذا الحزب إلى حطام يتناثر في شعارات رفعها مُتجلية في الانتماء القومي العربي، وفي الإصرار على استراتيجية الوحدة العربية، والمقاومة والممانعة، والمشروع الحضاري العربي، والعدالة.
وما زاد هذا الحطام حطاماً أنه في هذا العصر(في سوريا تخصيصاً) اعتبر هنا مؤامرة كونية أميركية غربية مكرسة من مجموعات من المندسين والسلفيين، ثم جماعة “طالبان”.
إن ذلك، وغيره كثير، يُظهر كم يتوجب على العرب أن يقرأوا مرحلتهم هذه المعيشة الآن في سياق القيام بتدقيق نقدي تاريخي لما مرت به جهات العرب الأربع منذ تصدع المشاريع الأربعة في العالم العربي، وهي المشروع العربي والثاني الليبرالي والثالث الديني (غير الدولتي) والرابع المؤسس على العدالة الاجتماعية والاقتصادية تخصيصاً). ويبدو أن الأمر الذي اشتغل عليه مفكرون وباحثون عرب بدءاً من مرحلة السبعينيات، مرحلة اكتشاف النفط العربي، أبعدهم عن مشروعهم التركي والآخر الإيراني، مع التركيز على حزب أو آخر، وعلى فئة أو أخرى، بدلاً من التركيز على مشروع وطني يستجيب لاحتياجات العصر من ديمقراطية وحرية وعدالة ونهضة وحداثة.
الاتحاد