مصير جيل كامل من الأطفال على المحك
آنا ماريا لوريني *
يقف لبنان اليوم أمام تحدٍّ صعب يهدّد الأطفال في الطليعة. في الواقع، يواجه جيلٌ كامل من الأطفال المتأثرين بشدة بالأزمة السورية خطر الضياع، حيث يدفع الأطفال السوريون والفلسطينيون واللبنانيون الثمن غالياً نتيجة الصراعات المستمرة.
ومع مرور عامين على الأزمة السورية، بلغت حصيلة الأطفال الذين هم بأمسّ الحاجة إلى المساعدة في لبنان 500 ألف. فبعد أن استقبل لبنان العدد الأكبر من اللاجئين الهاربين من العنف في سورية، وصل الحال بالمجتمعات المضيفة التي أظهرت كرماً مشهوداً له باستقبالها للنازحين ومشاركتهم مواردها القليلة إلى العجز، علماً أنها تعيش بغالبيتها في مناطق فقيرة.
لقد ولّدت الأزمة أكثر من نصف مليون ضحية صامتة من الأطفال الذين لجأوا إلى لبنان للحفاظ على حياتهم، فغادروا بلادهم من دون أن يحملوا معهم سوى الملابس التي تكسوهم. وقد اختبر الكثير من هؤلاء الأطفال حالات من العنف تعجز الكلمات عن وصفها، بحيث شهدوا على وفاة أو إصابة أقربائهم وجيرانهم وأصدقائهم أو على مشاهد الحرب القاسية. ولا بد من أن تترك هذه التجارب أثراً عميقاً في نفوسهم وتؤثر في رفاههم الاجتماعي وفي نموهم على المدى القريب والبعيد.
ويتحمل الأطفال المتأثرون بالأزمة في لبنان ظروفاً عصيبة جراء التشرد وعدم الأمان وحصولهم على مستويات محدودة أو معدومة من الرعاية الصحية أو مياه الشرب الآمنة أو المرافق الصحية الملائمة أو التعليم. فما يسمى بـ «المنازل» الجديدة التي تم تأمينها للأطفال القادمين من سورية عبارة عن غرفٍ في مبانٍ غير مكتملة أو مدارس مهجورة أو خيم أو أكواخ مؤقتة. وغالباً ما لا تتوافر الحاجات الرئيسة في هذه الغرف التي تكتظ بالنازحين فتعرّض الأطفال للأمراض وغيرها من المخاطر. ومع استمرار الأزمة، بدأت مدخرات اللاجئين، إذا ما وجدت، تتضاءل وموارد المجتمعات اللبنانية المضيفة تضمحل أكثر فأكثر، علماً أنها كانت محدودة أساساً.
فكل الصور التي نشاهدها يومياً والمقالات التي نقرأها تعبّر عن الوضع المأسوي الذي يعيش فيه هؤلاء الأطفال المحرومون من حقوقهم والمهمشون والمعرضون لخطر الاستغلال. وقد سبق لي أن تحدثت مع فتاة في العاشرة من العمر نزحت إلى لبنان مع عائلتها وقد أخبرتني أنها فقدت بيتها ورفاقها. ثم اصطحبتني إلى ملاذها الجديد، وإذا به خيمة موقتة نُصبت على أرضٍ موحلة في مقرٍّ مكتظ باللاجئين. وعندما سألتها عن حلمها وأكبر رغبة تختلجها، أجابتني: «أريد أن أعود إلى مدرستي في سورية وأصبح طبيبة أطفال».
فالرغبة في التعلم تبقى الأقوى. بيد أنّ أهل هذه الطفلة، شأنهم شأن كثيرين، عاجزون عن تحمل تكاليف النقل وغيرها من المصاريف الضرورية التي يتطلبها إرسال الطفلة وإخوتها إلى المدرسة؛ فالأزمة السورية أثرت في شكلٍ خاص في تعليمها.
ولا بد من الإشارة إلى أنّ استمرار الأزمة هناك يُضعف آليات التأقلم التي يتسلح بها اللاجئون والمجتمعات المضيفة هنا. حتى إنّ أهل الفتاة قد يضطرون إلى النظر في زواج الطفلة المبكر على أنه الحل الوحيد المتاح أمامهم لتأمين العيش الآمن لإبنتهم، الأمر الذي يجعل الفتاة عرضة للمشاكل الصحية ويؤثر في مستقبل أطفالها على المدى البعيد.
عملت «اليونيسف» جاهدة على توفير البيئة الواقية والآمنة لأكثر الأطفال حاجةً من اللاجئين والمجتمعات المضيفة، فسعت إلى تسجيلهم في المدارس، بحيث ارتفع عدد المستفيدين من الدعم الذي تم توفيره للالتحاق بالمدرسة إلى أكثر من 17720 طالباً حصلوا أيضاً على مواد التعليم الرئيسة. غير أنّ هذا كله لا يكفي.
فنظراً إلى تمسك «اليونيسف» بمبدأ المساواة لكل الأطفال، تعمل المنظمة على دعم الأطفال الأكثر تهميشاً وضعفاً، إضافة إلى عائلاتهم ومجتمعاتهم، بمن في ذلك اللاجئون السوريون والفلسطينيون النازحون من سورية واللبنانيون العائدون، علاوةً على المجتمعات اللبنانية المضيفة الأكثر ضعفاً بالتأكيد.
أما دور لبنان فيتمثل بإدارة استجابة إنسانية موجهة إلى اللاجئين الذين يشكلون جزءاً من الفئات الكثيرة المتضررة والمنتشرة في أرجاء البلد بأكمله، إذ إنّ المستجيبين إلى حاجات هذه الفئات المتزايدة يكافحون للتأقلم مع حجم الأزمة المتضخم، مع العلم أنّ مواردهم لا تسمح لهم بذلك.
من هنا، نشدد على أهمية إيفاء عدد من المانحين بالتعهدات التي أخذوها على عاتقهم في المؤتمر الدولي الإنساني لإعلان التبرعات من أجل سورية الذي تم تنظيمه هذه السنة في الكويت.
لا بد من أن يقدّم المجتمع الدولي هذه التبرعات. فالتمويل ضروري بالدرجة الأولى لتمكين الاستجابة إلى الحاجات الطارئة ولتحصين المجتمعات المحلية والمؤسسات الميدانية. ثانياً، يجب وضع حد للعنف في سورية بأسرع وقتٍ ممكن، لأن الوضع الحالي يستمر في انتهاك حقوق الأطفال في المنطقة.
الأطفال أولاً! لا يمكننا المجازفة بضياع جيلٍ كامل من الأطفال. علينا التصرف، وبسرعة!
* ممثل اليونيسف
الحياة