صفحات العالم

مصير سوريا من مصير السوريين/ دلال البزري

 

 

عجزت أوروبا الموحدة أن تتوحّد حول مسألة اللاجئين السوريين؛ خذلت نفسها بنفسها. لا رحابة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، ولا كرم اليونانيين تمكّنا من إقناع بقية أوروبا بفتح أبوابها لهم؛ وكلٌ لإعتبارات “إنتخابية” خاصة به. فعلق هؤلاء على الحدود الشائكة، بالآلاف، مرميين في الغابات، بين الصخور، يموتون جوعاً أو بردا أو عطشا، يعنَّفون، يضرّبون، يخافون، يخيفون. وبلغ ضياعهم حدّ طرقهم للبيوت الآمنة في الجزر اليونانية، طلباً لكوب من الماء، أو غطاء، أو قطعة خبز. كل محاولات الإقناع باستقبال الأعداد المتّفق عليها من اللاجئين، لم تنفع، ولا نفع التذكير بروح أوروبا وبميثاقها وقوانينها الملزمة بحماية الهاربين من الحروب.

في الأشهر السابقة، حاول الأوروبيون، وبشيء من الفتور، الإتفاق مع تركيا على “تسوية”، تغلق بموجبها شواطئها القريبة على اللاجئين الفارين إلى ربوعها. لم تثمر تلك المحاولة الكثير. ولكن الآن، إرتدت الكارثة حجماً، مكّن تركيا من التحول إلى متنفِّع من هذه “التسوية”، بعدما “تحسّنت شروطها”. منذ أيام، في بروكسل، وقّع وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو مع المجموعة الاوروبية إتفاقاً، لا يمكن وصفه إلا بالغريب؛ فهو ينص على أن يدفع الأوروبيون إلى  تركيا، ثلاثة مليارات دولار، ستقبضها “بأسرع وقت”، بالإضافة إلى ثلاثة مليارات أخرى، تنالها عام 2018؛ فضلاً عن تمتّع مواطنيها بحرية التنقل داخل أوروبا؛ وأخيراً، الأهم من كل ذلك، إعادة البحث بإنضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي، والذي كان قد تعرقل حول فصول عنوانها “الحريات الأساسية” و”العدالة”. بالمقابل، سوف “تقبل” تركيا بإعادة كل اللاجئين الفائضين إلى تركيا نفسها، وتتعهد بأنه مقابل كل سوري يعود إلى تركيا، سوف ترسل هي سورياً واحداً إلى أوروبا، تختارهم هي من بين من اللاجئين المقيمين في مخيماتها؛ وقد عُرف هذا البند من الإتفاقية بـ”واحد مقابل واحد”، سوري واحد يدخل أراضيها، وسوري واحد آخر يخرج منها…

هكذا، يصنع أوردوغان أحد أدوار تركيا في الحرب السورية، هو ربما الأعظم، الأكثر “عثمانية”. عاد سلطاناً لـ”الباب العالي”، ممْسكاً بمفتاح الشرق والغرب: به يفتح باب ضخّ أوروبا باللاجئين، وبه يغلقه. وهو دور فيه مَنَعة ومال وحصانة ضد الأعداء والمنافسين والنظراء، فضلا عن “راحة الضمير” بسمعة “الكرم” و”النبل”. ليس لأن أردوغان دَحَر الروس من خاصرتهم الشرقية، أو تصالح مع الأكراد، فتحصن، بذلك، من تشابكهم مع الروس والأميركيين. بل لأنه كالمسلِّم بضعف هذه الخاصرة، فقرر تقويتها بالإنكباب على خاصرته الغربية، الأوروبية؛ ونجح، بالمعايير “البراغماتية”.

وبهذه “البراغماتية” نفسها تعامل الأوروبيون، الحريصون دائما على إعلانات المبادىء، والمرتّبِكون أبداً بأصول ترجمتها عملياً. هم يفاوضون أردوغان منذ العام 2005، على دخول تركيا إلى المجموعة الأوروبية، لكنهم اختلفوا معه، كما قلنا، حول العدالة والحريات الأساسية. كانوا وقتها يأخذون على تركيا إخفاقها “الديموقراطي”، ويحثّونها على العمل بالفصلين إذا أرادت أن تصبح أوروبية. ولكن منذ أعوام قليلة، تدهورت تلك الحريات، ومعها العدالة، وبات السلطان أردوغان لا يهتم بغير حصد المزيد من الصلاحيات الرئاسية، الإستبدادية، وكسر أي معارضة له، في صفوفه وخارجها. ومع ذلك، مقابل أن يحمل عن أوروبا “عبء” اللاجئين، هي مستعدة أن تتعامى عن الفصلين. ولكن لا عجب: فأوروبا، بمجرّد رفضها اللاجئين، تتخلى عن المبادىء التي صاغتها، وتكتشف أهوال تطبيقها.

ولكن المفارقة الأوضح هي تلك التي تمنح المواطن التركي، بموجب الإتفاقية الأوروبية التركية، حرية التنقل داخل أوروبا كلها من دون الحاجة إلى “فيزا”، مقابل انها تقبض على حرية تنقل اللاجئين السوريين، وتعطي لنفسها حرية اختيار اللاجىء السوري المقيم في مخيماتها، الذي سوف ترسله إلى أوروبا بالطرق “الشرعية”.

وهذه أوضح العيّنات عن مصير السوريين الخارجين من سوريا؛ الذين أفلَتوا من الموت عن طريق الأسد أو الجهادييين، فعوقبوا في ما يشبه العبودية، بعدما فقدوا حرية تقرير مصيرهم، الفردي، أو العائلي،  وبالتالي الجماعي. عيّنات أخرى من هذا المصير أمام ناظرَينا، في الأردن ولبنان. ولكل من البلدين قوانينه الصارمة، أو فوضاه الخرافية، القاتلة لحرية السوريين ورزقهم وأرواحهم. ولا بد ان غير المرئيين منهم، المبعثرين هنا وهناك، في أنحاء المعمورة، يواجهون الأمرّ. وقد يكون عددهم بلغ الآن العشرة ملايين؛ أولئك الذين قال عنهم بشار الأسد في أول أيام ثورتهم عليه، انه لا يمانع بالتضحية بهم، وبأكثر منهم، لو اقتضى الأمر الدفاع عن كرسييه “ضد مؤامرة الصهيوينة والامبريالية”.

حان وقت الإنكباب على هؤلاء السوريين، بموازاة التركيز على الذين بقوا في الداخل. فاللاجئون موزعون الآن على سجون مختلفة؛ في الخارج، كل سجن له قوانينه وسياقاته، كما تبين من السجن التركي، أو السجن الأوروبي، أو اللبناني أو الأردني، أو الخليجي. أما في الداخل، فالسجن الروسي، بعد توقيع “الاتفاقية” (آب 2015) بين الروس وبشار، والتي سلَّمت مصير سوريي الداخل إلى الروس. يحسن بمؤتمرات السلام أن تحسب كل السوريين، من دون استثناء، من بين بنودها؛ قد يكون مصيرهم أكثر أهمية من تطور المفاوضات حول الحكم الإنتقالي، والدستور الجديد، وتطبيق القرار  رقم 2254… ليس تحت عنوان “إنساني” أو “إغاثي”، وحسب، إنما كبند سياسي بامتياز. فمصير سوريا من مصير السوريين، أينما وجدوا، أينما حطّوا، أو اطمأنوا…

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى