مطار النزوح السوري
عمر حرقوص
مطار رفيق الحريري الدولي أو مطار بيروت، ليس كأي مطار عادي. تحوّل منذ اندلاع الثورة السورية إلى ممرّ للسوريين، جميعا. في البداية كان معبراً للمعارضين الهاربين إلى دول العالم، ولكنه مع الوقت تحول إلى رئة سوريا الخارجية التي تنقل الموالين والمعارضين للنظام إلى الخارج. هو اليوم ليس مطاراً لمغادرة وعودة اللبنانيين، إنّه مطار الدمشقيين والحمصيين وغيرهم من أبناء البلاد الشقيقة الغارقة في الحرب الأهلية.
يقف الدركي اللبناني في المطار، ينظر إلى المستندات الرسمية التي يحملها العابرون إلى قاعة الذهاب. يقول إنه ”لولا السوريين الهاربين من حرب بلادهم لكان عمل الموظفين والطائرات الضخمة تحوّل الى نصف دوام بسبب غياب السياح العرب والأجانب“. ”إنه مطار السوريين“، في إشارة منه إلى حجم العابرين من المواطنين والمعارضين والمسؤولين من سوريا الى العالم، بعد إغلاق المطارات الرئيسية في سوريا وازدياد الحرب والمعارك التي أدت إلى نزوح الملايين من المواطنين السوريين عن بلادهم.
صف الإنتظار الطويل عند قاعة تسلم التذاكر وتسليم الحقائب للشحن تغلب على الواقفين فيه لهجات سورية متنوعة، أغلبهم دمشقيون، ومعهم بعض الحلبيين وشبان من حمص ودرعا واللاذقية. أحد الشبان الحلبيين وعمره لا يتجاوز الحادية والعشرين، يقف حائراً أمام زوجته الجديدة، يرتدي بدلة وربطة عنق جديدتين، يحدث والدته أو حماته على الهاتف، ويغرق في تفاصيل كثيرة حول الوزن الزائد الذي ينقله معه إلى القاهرة، يتقدم من ”المضيفة“ التي تسأله إن كان يتخلى عن بعض الأغراض التي يحملها أو نصفها إن أمكن، أو يدفع الفرق المالي الكبير جداً ليستطيع نقلها في الطائرة. يحاول جاهداً أن يتأكد من أن هناك أغراضاً لا تحتاجها زوجته وهي من ”جهاز“ عرسها.. أو حفل الزواج الذي طال انتظاره، ولم يحصل بسبب احتراق قاعة الاحتفالات.
زوجته المنقبة تحاول اللحاق به، هي التي خرجت قبل أشهر قليلة، لتتحضر للزواج خارج مناطق الحرب، أخرجت معها صورها الشخصية، وجهاز العرس، والذهب الذي اشتراه والدها لها من السوق القديم. الحي احترق بأكمله وضاعت فيه الكثير من الذكريات.. تضيع هي هنا في مطار هذه المدينة كما ضاعت في شوارعها.
مئات العائلات تستعد للإقلاع الى دول العالم. وجهة أكثرهم إلى مصر أولا. السوريون يرون الحياة في القاهرة أقل كلفة لهم من الحياة في بيروت وغيرها. هناك يستأجرون البيوت ويبحثون عن عمل يقيهم الجوع، ويقولون ما يريدون من دون الخوف من الخطف أو التوقيف الذي قد يحصل في لبنان.. وجهة السوريين بعد القاهرة، مدينة اسطنبول، هناك يستطيعون التجمع والسكن بالعشرات في شقق كبيرة وخاصةً الشبان الذين تركوا كل شيء خلفهم على أمل أن تستقبل هجرتهم ولجوءهم سفارة دولة ما في العالم الأول.
في عبورهم من مطار بيروت ينقل السوريون مأساتهم، ومشاكلهم وصور الشهداء الذين دفنوهم على عجل قبل سقوط صاروخ سكود في الحي الذي سكنوه طوال حياتهم، رأوا أنفسهم في الـ”يوتيوب“ يتظاهرون. تركوا التلفزيون الذي شاهدوا من خلاله صور الأمكنة الأخرى الذاهبين إليها لتتحمل سوء حظهم مع الحياة.
أمام نقطة الأمن العام للتأكد من جوازات السفر، يقل عدد اللبنانيين عن أصابع اليد الواحدة، فيما يمتد رتل المواطنين السوريين أمتاراً طويلة، وهو عكس ما كان يحصل سابقاً، أطفال صغار، نساء كبار وعجزة يحتاجون لمن يساعدهم في تنقلهم. إنه شعب يهاجر عبر الطائرات، لأن لبنان صار بالنسبة لهم جزيرة معزولة، من جهة إسرائيل والحدود المقطوعة معها، ومن جهة الحرب في سوريا، فيما ليس أمامهم سوى البحر، أو المطار، بوابتهم إلى الحياة.
المحامي الدمشقي الهارب الى شرم الشيخ، يقرأ في الصحيفة ويرميها جانباً، يقول إنه عائد بعد أسبوع إلى دمشق، فهو ذاهب للسياحة وإراحة أعصابه من جو الاشتباكات التي دخلت في يومياته كأنها دخان سجائره اليومية التي تزداد بمعدلات مرتفعة. يأمل أن يعود بعد رحلة استجمامه الى دمشق ليستكمل عمله في متابعة ملفات مكتبه الذي لم يغلق. رغم عمره الكبير يحلم بالهدوء وبراحة بال لم يحصل عليها منذ عام وأكثر. لا يخاف من العودة إلى الحرب، لأنه يعتقد أن الموت في بلاده أفضل بكثير من الانتظار على أبواب السفارات، أو في أقسام الشرطة والأمن.
الطفلة الصغيرة مايا وعمرها لا يتجاوز العامين تركض في الممر رقم ستة. يناديها أخوها الأكبر ويركض خلفها في لعبة أبطال وحرامية، لعبة ثوار وجيش حر وجيش نظامي.. تصرخ طوال الوقت وتنظر الى مجسم الطائرة البعيد وتقول: طيارة.. طيارة.. طيارة.. كأنها تتنبأ بالزمن المقبل على السوريين.