مظاهرة إلكترونية
يستطيع المرء أن يتتبع درجة حرارة الحراك السوري بحسب مناطقيته منذ اليوم الأول. ففي الوقت الذي يعتبر الدمشقيون و الحلبيون أن في مظاهرة “طيارة” لا تتجاوز مدتها خمسون ثانية نصراً عظيماً، لا يرضى أهالي حمص بأقل من عشرة جنود منشقين على مائدة العشاء. يفترشون الأرض معهم بعد أن تم تهريبهم من رجال أمن و جيش و شبيحة تابعون للنظام. و في الوقت الذي يطير به عقل الدمشقيين ببضع قصاصات ورقية تتناثر هنا و هناك، لا يحفل أهالي ريف دمشق بأقل من افتتاح مشفى ميداني جديد. و رغم أن أهالي القرى النائية و الأرياف القريبة يُقدرون للدمشقيين و أهل الشهباء شدة القبضة الأمنية التي تحيط برقابهم فلا يبخسون أهالي هاتين المدينتين العظيمتين نضالهم شيئاً إلا أنها تظل غصة تحز في نفوسهم أن يمروا بشوارع المدينتين ليروا الناس سكارى و ما هم بسكارى. يتلهون من مطعم لآخر و من متجر لسواه. لا يفوتون ليل خميس إلا و قد عادوا ثمالى إلى بيوتهم و لا يضيعون يوم جمعة إلا و قد اجتمعوا على فنجان قهوة صباحية في أحد المقاهي أو أمام شاشات التلفاز أو في مسجد ناءٍ بعيد عن (التوتر). و كل هذه النِعم التي يرفل فيها أبناء المدينتين و كأن جيرانهم على بعد بضعة كيلومترات لا يتعرضون للقصف و الحصار و الاقتحام و الانتهاك ليست هي ما قد يصيب صميم قلوب المناضلين في مناطق شتى بالألم. و مع أن أهل هاتين المدينتين يستمرون في حياتهم منذ شهور تسع و كأن شيئاً لم يتغير تقريباً رغم أن آلاف المعتقلين يجثمون في أقبية الأرض التي يمتطون صهوتها إلا أن هذا أيضاً ليس بالسبب الكاف لاستثارة وجع أبناء المدن و القرى الأخرى تحت الحصار و فوق الاحتمال.
ففي مكان آخر تماماً تجري أشياء تدمي قلب الجسد السوري المنهك. على الانترنت يتفنن بعض السوريين باطلاق هتافات بلا صوت. و شعارات بلا خطورة. و مواقف بلا مواقف.
في عالم يوصف بأنه الكتروني وغير ملموس. يثور بعض السوريين. تلتف هناك المعارضة و الموالاة حول شعارات واحدة. “الشعب السوري ما بينذل”… و “واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد”… فتفقد الثورة ثورتها إذ ينتفي الخصم و تضيع المطالب و يميعُ الغضب و تصمت الأصوات. على الانترنت تنطلق مظاهرات الكترونية يتعلق بها كل من بدأ ييأس من نفسه. اللهم إلا قلة قليلة ممن يجيدون الحراك على الأرض و يعتبرون أن هذا ليس أكثر من تجربة تحشيدية جديدة. و هؤلاء سرعات ما يكتشفون بلاهة التجربة مقارنةً بنضالهم الحقيقي على الأرض فينشقون الكترونياً. أما الأكثرية الديكتاتورية الانترنتيه و التي لا تخرج للتظاهر إما لظرف موضوعي بحكم وجودها خارج حدود الوطن أو لأنها لا زالت بعد تسع شهور تخشى المشاركة فقد وجدت في هذه المظاهرة الالكترونية فرصة رائعة لفك عقدة الذنب عبر تعويض كسول.
و بطبيعة الحال ما من مشكلة في تنويع أساليب الحراك. فهذا يجعل النظام أكثر تخبطاً. لكن المسألة تتعلق بصلابة التنويع و زمنه. حركة صامته جماعية كهذه كان يمكن أن تبدو مفيدة في الأيام الأولى للثورة و ليس اليوم. أما و الثورة على وشك أن تدخل شهراً عاشراً فقد يبدو حراك من هذا النوع مصدراً لسخرية أبناء المناطق الساخن إن لم نقل ألمهم أو غضبهم أو كل هذه معاً.
لن يغفر التاريخ للكسالى. والتنفس بصوت مرتفع لن يسجل في كتب التاريخ على أنه أكثر من غضب جبان. ذليلٌ يتحرق أما شاشة التلفاز غيرةً ممن لديهم ضمير حي. والأبناء لن يضرسون بحصرم آبائهم المقعدين بمزاجهم. الأبناء لن يرسلوا لآبائهم و أمهاتهم رسائل قصيرة على الموبايل يسألونهم فيها بصوت أخرس “أين كنتم؟” بل سيفتحون باب البيت و يخرجون وقد تركوهم وراءهم مقعدون أن ذوقوا اليوم بعض ما كنتم تعملون.
اليوم سيغدو الصوت أعلى و أعذب وسيصل. فقد علت الأصوات باكراً و يستحيل أن تدور العقارب إلى الوراء.. لقد صدح الجميع بالحرية منذ اللحظة الأولى و رجع الصدى سيعم المعمورة. الكل صاح بالحرية، أطفال درعا من مدارسهم والقاشوش من قلب نهر العاصي، وغياث مطر من ماء داريا و أبو فراس من جوف الصنمين و ام النور من أطراف الريف و حمزة من قلب أمه و محمد وردة من قلب برزة و ريما من قلب كلية الطب و محمد آل رشي من ركن الدين و الساروت من ملعبه والشيخ كريم راجح من على منبره وأبونا باولو من صمت ديره المنسي في الجبال …. كلمة الحق قيلت و غادرت الأفواه و الزمن لن يعود يوماً إلى الوراء.
بقلم
ريمي السبكي كرمنتينا
http://kebreet.net/2011/12/07/%D9%85%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%B1%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9/