معارضات سوريّة: سياسة برؤوس عائمة/ جبر الشوفي *
يلفت نظر المتتبع للمشهد السوري كثرة الرؤوس السياسية والإعلامية الطافية على وجه الحدث، وشدة دورانها في مدارات للفراغ والعقم واللاجدوى، والأمر لا يتعلق تماماً بمدى صحة ما يقولونه أو عمق ما يحللون، وهم ليسوا مبدعين في ذلك ولا مجترحين للسائد على كل حال، إنما، على ما يبدو لي، هم مجرد رؤوس عائمة على السطح، من دون أجساد حاملة لها أو دافعة بها ومعها.
لا شكّ أنّ هذه الحالة السائدة، من الانقطاع بين الرأس والجسد السياسيين، سبب أساسي لما تبدو عليه معارضاتنا، من الهشاشة وفائض الكلام وقلة الجدوى، سواء أكانوا تنظيمات أو أفراداً أو مؤسسات، وأنّ هذا الوضع المؤسف هو النظير المكافئ لانقطاع مزمن بين المجتمع المدني، بوصفه بنية تحتية منتجة للسياسات وضامنة لصحتها واستمرارها، وبين المجتمع السياسي بوصفه أوعية الصهر والتنقية والدفع، ولكن هل هذا مبرر كاف، ليستكين المرء ويعفي نفسه من مسؤولية البحث والمتجدد لابتكار الوسائل وآليات العمل واجتراح الحلول الصعبة لزمننا السوري الأصعب.
ما حجة هذا الاستئثار والإلغاء والتهميش، وشهوة التصدّر واحتكار حق التعبير عن الرأي، وتلميع الوجوه وإعادة تكرير العتيقة منها وترويجها، وتقريب الأزلام والطيّعين الموافقين والفاسدين المؤدّبين أدباً قد لا يفترق عن تأدّب الخوف من السلطة أو على الموقع والمصلحة؟! وما حجة هذا التثبت والتشبث بالخطأ، ليغدو ملازماً لكل توجه أو عمل، في أوساط سياسيينا (الرؤوس والمرؤوسين) يكررون به أنفسهم بأشكال ممجوجة ثقيلة على كاهل السوريين ووجدانهم، وهل لذلك علاقة باستمرار بروز ظاهرة الرؤوس الحامية العائمة، مع غياب كامل أو شبه كامل لحواملها السياسية والاجتماعية وانحسارها في أضيق المساحات وأقلها.
ينطبق هذا الواقع على «واجهة السحارة» السياسية في المشهد السوري المعارض، حيث يمكن لأي تفكيك لبنية جسمين سياسيين أساسيين هما المجلس الوطني السوري وائتلاف قوى الثورة والمعارضة، أن يجد أجوبة شتى لتحدٍّ واحد. فالمجلس الوطني الذي ناءت قياداته بحمل جسمه المترهل والمشتت بين تمثيله لأطياف عشوائية ومرتجلة، أدخلت بموجب «طبخة الرعيان» المسماة إعادة الهيكلة، يتوجه الآن إلى إعادة تلميع وجوهه الرئيسية في المكتب التنفيذي، وتقليص جسمه بما يرشق حركته واندفاعه وتربصه ربما بانهيارات متوقعة أو محتملة للائتلاف، المنطوي عملياً على ائتلافات لا تأتلف، لا سيما عند مختنق جنيف2 وتداعياته، في ظل مشاكل وهنات لم تكن الصفعة الشهيرة إلا إحدى مظاهرها وتجلياتها.
وإذا كان وهن السياسيين السوريين في المعارضة، يكمن في كون معظمهم لا يستند على أسس متينة وبنية صلبة لتنظيم سياسي، وإذا كان حظهم من النجاح والتواصل والدعم ضئيلاً، ومن القدرة على التأثير على سياسات الدول أضأل، وإذا كانوا لم يجسدوا روح الجماعة التي يدّعون تمثيلها، ولم يحوزوا رضاها، وهم بعد ذلك وقبله لا يعترفون بأنهم باتوا شيوخ السياسة وعواجيزها، ولا عكاز عندهم يتوكأون عليه سوى مصلحة الثورة وأهدافها، وسوى الدم السوري والهوية الوطنية السورية، وهم لا زالوا يصرون على وضع جيل الشباب تحت عباءاتهم، على حين يرفض الشباب هذه الوصاية والأوصياء عليها، بل ينفرون منهم ومنها، فماذا يتبقى من السياسة وهي عصارة عقل المجتمع ووعيه وحكمته أمام التثبت والرفض؟!
يبقى تعويم الشعارات وإسفاف الدوران عند خط نظر العوام من دون عمق في التحليل، ولا علو في التحليق، ويبقى أن الساسة مجرد رؤوس عائمة، فهي لا تمتلك فعلياً قدرة التأثير على عشرة رجال مسلحين أو مدنيين، أو حتى عاملين في الخدمات والإغاثة، عداك عن الإعلام وترهله وبؤس أدواته ومنفذيه، حيث يبدو غياب الحرفية والعمل المؤسسي. والأمر أكثر كارثية إذا فتشنا عن تحالفات فعلية أو عن ائتلافات سياسية وازنة تعدل الميزان المائل نحو البندقية المشتتة الولاءات، والأيديولوجيات المتربصة بالهوية الوطنية السورية، بعدما قدم السوريون، أهل الهوية الوطنية الحقيقيون، آلافاً مؤلفة من الضحايا، وبعد أن دمرت آلة النظام المجرمة بنية البلاد وجعلتها غير قابلة للعيش وشروط الحياة.
إن غياب القيادة وتعذّر الإجماع الوطني على أسماء (رموز) لها حضور فعلي، في المشهد السوري المأسوي، يرتبط أشد ارتباط، بغياب الجسد السياسي، خلف هذه الرؤوس اللائبة الباحثة عن أجسادها، وفي ظني أن العلة تكمن هنا في غياب هذا الجسد الوسيط وتفككه وتوزع تأثيراته، بعد أن تشظّى وانتشرت رماله المتحركة على الساحة السورية وفي بلاد المهجر، ولم يستطع أن يكون مشاركاً فعلياً في الحدث اللاهب المتفجر، ومال بطبيعته إلى ما تأسس عليه من حياة الأبراج والأوهام، ومن التلظي بالصمت والحياد، وتفضيل السلامة على كل مخاطرة ومغامرة مجهولة العواقب، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مسار السياسة، بوصفها عملاً مدنياً سلمياً، مبنياً على الوعي والإيمان والصلابة المبدئية، لا ينهض نهوضاً حقيقياً، إلا بالبناء على أسس التنظيم وبنيته الداخلية المتماسكة، ولهذا رأينا وما زلنا نرى سرعة تفكك تلك الكيانات المرتجلة التي اتخذت لنفسها أسماء تيارات أو تجمعات أو أحزاب، وهي لا تمتلك هذه البنية ولا أدواتها ووسائلها، ومن هنا أيضاً تطفو على سطح حياتنا سياسة السبّ والقذف والاتهامات الجاهزة، عند من لا يمتلكون بنية ذهنية متوازنة ولا يعتمدون التحليل والتركيب واستخلاص النتائج.
كنت وما زلت أحاول ضبط العقدة المستعصية علينا، أو ما يسمى القطبة الخفية في الثوب، واعتقدت وما زلت أعتقد أن العثور عليها وضبطها، هو من مهام النخبة الفكرية والسياسية ولكن أية نخبة هذه؟ قد يجيبنا غرامشي على بعض هذا التساؤل، ولكن الإجابة الحقيقية الكاملة لا يمكن أن تكون، إلا في إيجاد المثقف العضويّ المنخرط في عمل بحثي واقعي له كل عوامل الاندماج في الواقع وكل مواصفات التفاعل معه وتفعيله.
من أجل هذا ومن أجل إخراج هذه الوسيط المرتجل والمتخبط العشوائي من فوضاه، ومن أجل مستقبل وطني ديموقراطي لسورية الموحدة أرضاً وشعباً، نحتاج إلى تنظيم حقيقي لـ «الصف الثاني» أي الوسط الاجتماعي والفكري لأنه بمثابة العمود الفقري، ليس بمعنى موقعه في نهج الاعتدال ورفضه للتطرف وميله إلى السلم والتعايش فقط، بل لأن ما هي عليه هو حصيلة انفلاش الطبقة الوسطى وتضعضعها وتزع وزنها الراجح، المعدّل لكل اختلال أيضاً، ولأنه يجب أن تُنظّم وتُبنى لتعود مجلىً من مجالي القيم الوطنية والاجتماعية والفكرية، والاحتياط الضروري لتقديم الكفاءات المهنية والعلمية والسياسية، وحامل شعلة التنوير والتأثير إلى عامة المجتمع.
* كاتب سوري
الحياة