سمير سعيفانصفحات سورية

معارضة سياسية بدون سياسة


سمير سعيفان

لا يوجد في تاريخ الصراعات المعاصرة ضعف في الأداء السياسي، بل وغيابه، مثل ذاك الذي يرافق الثورة السورية. والأشد ألماً أن الساسة السوريون، رغم كثرتهم، تشاغلوا بتقديم شروح وتبريرات أسباب ضعف الممارسة السياسية أكثر مما انشغلوا بالعمل لتجاوز هذا الضعف القاتل، الذي يلحق كل الضرر بالثورة السورية.

الثورة السورية، كما كل الثورات، قامت من أجل أهداف سياسية، قامت من أجل تغيير النظام السياسي من نظام فردي شمولي يعتمد القوة المكشوفة لإستمرار القبض على السلطة إلى نظام سياسي مدني حديث يقوم على مبادئ الديمقراطية والتعددية وتداول السلطة.

بسبب غياب السياسة تغيب الرؤية الموحدة حول قضايا مفصلية مثل طبيعة النظام السياسي القادم، وحول التدخل الدولي، وسياسات التعاطي مع الدول الفاعلة والمؤثرة في الأزمة السورية، وسياسات تلقي الدعم الإغاثي والعسكري وظروفه بل وشروطه، وسياسات مواجهة التهجير، وسياسات إدارة المناطق التي تحرر من سيطرة النظام وتصبح تحت إدارة الثورة، وسياسات إقامة إدارة محلية تتولى تنظيم الشؤون العامة، وسياسات مواجهة جرف البلاد نحو حرب أهلية وصدام طائفي، والموقف تجاه وضع الأكراد السوريين وتجاه بقية مكونات الشعب السوري، ومسألة وحدة سورية أرضاً وشعباً ودولة، وسياسات لمواجهة تسلل مقاتلين جهاديين إلى داخل سورية، والتي أساءت لسمعة الثورة السورية وطنياً وعالمياً، إضافة إلى غياب الرؤية حول الجمع بين العسكري والسياسي والموقف تجاه الحل السياسي والموقف من التفاوض لنقل السلطة والاستخدام التكتيكي والاستراتيجي لهذه المسألة الهامة بما يخدم الثورة. وهناك العديد من القضايا السياسية التي يضيق بها المكان والتي تغيب عن سياسة الثورة السورية.

مثلاً بسبب غياب رؤية حول الموقف المبدئي من الحل السياسي والتفاوض في حال بروز فرصة لتحققه أو حتى مجرد استخدامه في الصراع، ينجح النظام في الظهور بمظهر المرن والمستعد للحوار وللحل السياسي ، بينما تظهر المعارضة رافضة لذلك، فيظهر النظام بمظهر إيجابي مسؤول أمام من يقف في المنطقة الرمادية في الداخل، ويقدم لأصدقائه حجة يدافعون بها عنه. وينجح النظام جزئياً في التأثير على الرأي العام الغربي من خلال هذه الصورة. رغم أن الواقع هو عكس ذلك، فالنظام هو من رفض ويرفض بإصرار أي حل سياسي وأي حوار جدي أو تفاوض جدي، بينما أعلنت المعارضة منذ الأيام الأولى للثورة أنها تقبل الحل السياسي وتقبل التفاوض إذا ما تحققت شروطه، وهي نفس النقاط الست التي تضمنتها المبادرة العربية الأممية المشتركة.

السياسة تعلمنا أن الاشتباك السياسي والإعلامي مع النظام بل وطرح حل سياسي لنقل السلطة حتى لو كان ‘تفاوض تحت النار’، أسوة بالاشتباك العسكري، يحقق مكاسب للثورة ويمنحها قوة وتأييد أوسع في الداخل والخارج ويعري النظام ويضعه في موقف أصعب. فالاشتباكات السياسية والعسكرية والإعلامية إنما تكمل بعضها بعضاً.

لأن السياسة غائبة، يغيب البرنامج السياسي الموحد الملزم للجميع الذي يحقق هذه الدولة المنشودة بعد نصف قرن من المعاناة. وتغيب البوصلة فتصبح المجموعات المكونة للثورة أقل تحصيناً، ومعرضة لتأثيرات الجهات التي تقدم الدعم وأجنداتها، ويجعل الثورة السورية ساحة لصراع وأجندات دولية تصبح فيها إرادات قوى الثورة المشتتة تحت تأثير تلك الأجندات.

الثورة جاءت لتبني سورية، وإن لجأت لحمل السلاح فقد كانت مضطرة لا باغية، والنظام دفعها دفعاً في هذا الاتجاه، ولم يكن ثمة بد، فلا أحد يحب أن يعتقل أو يموت أو يقتل له عزيز أو يهدم بيته أو يهجر منه. السلاح وسيلة وليس غاية ولا يمكن أن يكون غاية بذاته، هو ‘استمرار للسياسة بأدوات أخرى’. فالسياسة هي الأصل، فإن غابت السياسة يصبح السلاح وحيداً في الميدان ويتحول إلى غاية بحد ذاته. ‘فالسلاح يغري’، هذه هي الكلمة الشعبية الشائعة، ويفتح باب الإغراء عندما يغلق باب السياسة.

لأن الثورة السورية بلا رأس سياسي فإن الفعل السياسي يسير بتباطؤ وتكاسل خلف الفعل العسكري. في الميدان يسيطر المقاتلون من حملة السلاح، ولهؤلاء دور يفرض نفسه عليهم ويفرض أنماط تفكير وسلوك. الفصائل المسلحة لوحدها لا يمكن أن تهتم سوى بدحر نظام الأسد عسكرياً، هذه هي وظيفها، وبالتالي تصبح الثورة جسداً قوياً بلا رأس سياسي.

سقوط النظام سيتحقق، ولكن تأمل سير الصراع على الأرض اليوم، وبسبب غياب السياسة، يظهر أن هذا الأمر، وبسبب سياسة الأرض المحروقة التي يتبعها النظام، سيتم بتكاليف هائلة مادية وبشرية واجتماعية، وسيستغرق زمناً أطول، بعد أن تحولت سورية إلى ساحة صراع دولي، ولكل طرف دولي مآربه السياسية الخاصة.

يجب إبراز حرص الثوار السوريون على بناء سورية لا تهديمها، ويجب أن تصاغ سياساتهم بما يحفظ سورية من مزيد من الدمار والتفكك والتقسيم.

بسبب غياب السياسة وغياب القيادة السياسية الموحدة القادرة، يتم ارتكاب أخطاء تزيد من التكاليف البشرية والمادية الناجمة عن وحشية النظام، وهي وحشية تؤخذ في الحسابات السياسية عندما ترسم الاستراتيجيات وتوضع الخطط وترسم التكتيكات، فالشجاعة تحتاج إلى عقل أيضاً.

لأن السياسة غائبة فنحن نعلم اليوم أن النظام سيسقط وأن بشار الأسد سيذهب، ولكننا لسنا واثقين كفاية أي نظام سياسي سيأتي. لنتصور النظام يسقط اليوم، فمن سيقود سورية في اليوم التالي؟ هل سيتنازل كافة القادة المحليون لبعضهم البعض بعد سقوط النظام ويكوّنوا قيادة واحدة ورؤية واحدة للمرحلة الانتقالية على الأقل، بينما لم يتنازلوا لبعضهم حين كانوا يقاتلونه؟ هل سيتمترس البعض بمكانه وبالأرض التي يسيطر عليها مما يؤدي لصراعات إضافية؟ وإن تحقق هذا التخوف ألن يدخل سورية في فوضى صومالية؟ وحتى لو توحدوا من أجل مستقبل سورية، بعد أن يتيح لهم سقوط النظام سهولة الحركة والحوار، وهذا ما نأمله، فأين هو دور السياسيين؟ هل ستعود سورية لحكم عسكري باسم الثورة مرة أخرى؟ ما هي الضمانات وأين هي؟ رغم أن معظم الضباط القياديين في الجيش الحر يؤكدون التزامهم بإقامة دولة مدنية ديمقراطية تعددية، وهذا يحسب لهم، غير أن دور السياسيين مطلوب، لأن إقامة النظام السياسي هي مهمة السياسيين.

بسبب غياب السياسية والنهج السياسي الموحد والقيادة السياسية الموحدة تنمو الأنانيات الفردية لبعض القيادات التي برزت في الميدان بدون أي تأهيل وبدون أية خبرة سابقة فتسير بمنطقتها في توجهات بعيدة عن الأهداف الأساسية للثورة، ولكن هذا النوع من القيادات مازال قلة قليلة.

لأن القيادة السياسية الموحدة المركزية القوية غائبة، يغيب الفعل السياسي القيادي، فتبرز في الأزقة والطرقات الفرعية مجموعات سلفية وتكفيرية، وإن كانت صغيرة، غير أنها تشوه وجه الثورة خاصة عبر تركيز الأقنية التلفزيونية الرئيسية عليها، الجزيرة، العربية، بي بي سي، فرنسا 24 وغيرها.

في كل ثورة تضطر لحمل السلاح يسير العمل العسكري مع العمل السياسي جنباً لجنب، والسياسي يقود العسكري، وليس العكس، أما في الثورة السورية اليوم، وبسبب غياب السياسي فإن قعقة السلاح هي الطاغية، وهي تقوم بدورها البطولي وتقدم التضحيات، ولكنها تنتظر السياسي أن يتحرك ليدعمها ويخفف معاناتها فلا تجده إلى جانبها.

فأين هم سياسيو الثورة السورية، وأين هي سياستها؟.

‘ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى