‘معارف’ النظام السوري: تطويع الاداة وتربية الوحش
صبحي حديدي
أغلب الظنّ أنّ النظام السوري، وعلى نقيض من الرأي الشائع في أوساط مراقبيه ومعارضيه على حدّ سواء، تعلّم الكثير من الدروس خلال الأشهر السبعة التي انصرمت منذ انطلاق الانتفاضة، وتنوّع ما تعلّمه وتشعّب، فتوزّع بين معرفة أمنية ـ عسكرية صرفة، وأخرى أمنية ـ استخباراتية، وثالثة أمنية ـ سياسية، ورابعة أمنية ـ دعاوية، وخامسة أمنية ـ دبلوماسية… ومع ذلك، بئس هذه الحصيلة التي لا تستجمعها إلا معارف مرتكزة أوّلاً على الخيار الأمني، الذي ينتج الأداة قبل العقل، والطاعة قبل المبادرة، والهاجس قبل اليقين، والانحياز الأعمى قبل الانخراط الإرادي.
وهكذا، في المعرفة الأمنية ـ العسكرية، تعلّم ضباط الفرقة الرابعة، إسوة بصفّ ضباطها وأفرادها، العاملين مثل المجنّدين، كيف تنقلب استباحة حيّ، أو قرية أو بلدة أو مدينة بأسرها، إلى رياضة باردة، جديرة بالقاتل المأجور، أو القاتل المرتزق، أو القاتل الشبّيح. وكان لا مفرّ لهؤلاء، في قيامهم بدور الأداة الطيّعة، ثمّ في وفائهم لشبكات الولاء التي تستولد منظومات مصالح سياسية واجتماعية واقتصادية متباينة أو متجانسة، لا تغيب عنها غرائز الانضواء الطائفية أو العشائرية أو المناطقية، من أن يستسهلوا الذهاب بالهمجية إلى حدودها القصوى. كأنّ القتال صار عندهم معركة وجود أو عدم، ليس ضدّ شرائح واسعة من مواطنيهم المسالمين العزّل وحدهم، بل أيضاً ضدّ ‘الوطن’ الذي ينتمي إليه المتظاهر، بوصفه وطناً خائناً أو مندساً أو عميلاً أو سلفياً أو… وفي واحد من أبرز مستويات هذه الحصيلة أنّ الفرقة الرابعة انسلخت عن شخصيتها العسكرية، بأي معنى مهني أو تعبوي أو لوجستي لهذه الشخصية، فصارت الفرقة عيّنة مصغّرة عن عصبة أو عشيرة أو طائفة، أو لعلّها في الواقع كفّت عن الحاجة إلى أي تصنيف ومسمّى، ما خلا أنها أداة دفاع عن النظام، صمّاء عمياء بكماء!
وفي المعرفة الأمنية ـ الاستخباراتية، يُصاب ضابط مثل اللواء جميل حسن، رئيس جهاز استخبارات القوى الجوية، بعُصاب من طراز جنوني خاصّ، تتفاقم أعراضه الباثولوجية بين حدّين أقصَييَن: إرضاء الحلقة الأمنية العليا (الضيّقة، المغلقة، التي لم يحظَ بـ’شرف’ الانضمام إليها)، عن طريق استعراض عضلات جهازه، وارتكاب المزيد فالمزيد من الفظائع؛ والعجز عن نيل ذلك الرضا العسير، لأنّ الانتفاضة تُلحق به وبأجهزته الفشل الذريع، فلا تسير النتائج إلا بما لا يشتهي اللواء وسادته. وهكذا، لأنّ الجهاز فشل في كسر إرادة ناشط مثل غياث مطر، كان نموذجاً ناصعاً وعالي التمثيل لمعجزات الانتفاضة في جذب الشباب إلى العمل الوطني وصياغة الحراك الجماهيري، توجّب أن يُصفّى الفتى، وأن يتمّ التمثيل بجسده على نحو بالغ البشاعة والوحشية، وأن تُسلّم جثته إلى أهله بهذه الهيئة: عبرة لمَنْ يعتبر، في ظنّ اللواء، الذي فاته بالطبع أنّ العبرة الأخرى ـ شهيد الانتفاضة، وشهيد سورية ـ هي الأشرف للفتى وأهله، والأبقى في ضمير بلده وذمّة التاريخ.
بذلك فقد كان طبيعياً أن تنحطّ المعرفة الأمنية ـ السياسية، في المقابل، إلى سوية سفلى من ابتذال الخطاب وإدقاع المفردات وتقزيم المصلحات، توجّب أن تحزن رأس النظام نفسه في المقام الأوّل، هو الذي ـ حتى قبيل توريثه، وخلال أشهر تدريبه على الحكم ـ نصب نفسه في مقام الفيلسوف والمنظّر والمفكّر والحكيم وعالم الاجتماع والاقتصاد والسياسة… في آن معاً! الكون السوري، وفق منظور الأسد الأمني ـ السياسي، هو مؤامرة على نظام ‘ممانع’ و’مقاوم’، سبق للغرب أن حاكها، فخرج النظام فيها منتصراً، وكذلك سيفعل اليوم إزاء الأطوار الأحدث من تلك المؤامرة ذاتها (لا يمرّ شهر، في واقع الأمر، إلا ويعلن أحد وجوه السلطة أن ‘المؤامرة’ انتهت وصارت وراء النظام). والكون السوري، عند الأسد دائماً، لن يحيد عن طريق ‘الإصلاحات’ حتى يبرهن أنه مثال يُحتذى في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأنّ رأس النظام جدير بقيادة المعمورة في أربع رياحها وليس سورية وحدها، كما هتف أحد دُمى ما يُسمّى ‘مجلس الشعب’ ذات يوم قريب. وأمّا ‘الإصلاحات’ ذاتها (مثل قوانين الأحزاب والإعلام والانتخابات تعديل الدستور…) فإنها لا تأتي، إذا أتت حقاً، إلا وقد صار استحقاقها وراء الحراك الشعبي، هذه المرّة، ولم تعد قيمتها تساوي الحبر الذي كُتبت به، فكيف بالدماء الزكية التي أُريقت في درب المطالبة بها على وجه أمثل، غير مزيّف وغير ملفّق.
وليس أدلّ على ما آلت إليه معارف النظام الأمنية ـ الدعاوية من العودة، بين الفينة والفينة، وحسب مقتضى الحال، إلى ما يطلق عليه النظام تسمية ‘المسيرات المليونية’، كما حدث مؤخراً في الحشود التي غصّت بها ساحة الأمويين، في قلب العاصمة دمشق، على سبيل استقبال وفد الجامعة العربية. ذلك لأنه حتى تلك القاعدة التي تبيح للمرء أن يفعل ما يشاء إذا كفّ عن الحياء، لم تعد تكفي لتفسير مقدار تخبّط النظام في هذا الركن من معارفه، وكم فقد من حسّ اكتراث بما يقول الناس، داخل سورية وخارجها، إزاء هذا المسرح الردىء الفاضح والمفضوح. كان البعض يتساءل، عن حقّ بالطبع: لماذا لا تظهر العصابات المندسة مرّة واحدة خلال هذه المسيرات المليونية، رغم أنها صيد ثمين دسم لكلّ ‘إرهابي’ مبتديء؟ أو، في المقابل: لماذا يظهر الرصاص الحيّ والغاز المسيل للدموع والشبيحة والأمن والدبابات… كلما حاول مئات من المتظاهرين، وليس مئات الآلاف، الاقتراب من ساحة الأمويين، أو ساحة العباسيين، أو ساحة السبع بحرات، أو حتى ساحة المرجة؟
جديد هذه المعرفة الأمنية ـ الدعاوية، وهي نقلة ذات طرافة مريرة سوداء، أنّ الجماهير المليونية هذه أخذت تسرق ألحان الزجّال والمغنّي الشعبي الشهيد إبراهيم القاشوش، بعد أن تقلبها رأساً على عقب، بما يجعلها تتمات أشدّ ابتذالاً لتلك الهتافات التي تركع أمام صورة الأسد وتقبّلها، أو تُعلي مقامه إلى مستوى الألوهة، أو تضعه بديلاً للحرّية في الثالوث الشهير ‘الله! سورية! بشار وبسّ!’. جديد آخر هو سرقة الهتاف الشعبي المعروف ‘الذي لا يشارك/ ليس عنده ناموس’، بحيث يصبح ‘الذي لا يشارك/ أمّه حمصية’، في تعريض وضيع بنساء حمص وبالمدينة العريقة المناضلة.
وأمّا الذي لم يكن جديداً، بقدر ما صار فاقعاً أكثر وقليل الحياء أيضاً، فهو نصرة النظام عن طريق حشد السيارات الفارهة ومركبات الشبيحة و… عربات الدفع الرباعي، ذاتها التي اتهمها الأسد بالمشاركة في التآمر على نظامه!
ورغم أنها تأتي في المرتبة الأخيرة من هواجس نظام يعيش سكرات الموت، ويدافع عن وجوده بالنواجذ والأسنان، في الداخل أوّلاً، وعبر الخيارات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية والدعاوية، فإنّ المعرفة الأمنية ـ الدبلوماسية تطلّ على استحياء بين حين وآخر، حين تشترطها اعتبارات خارجية أساساً. وهكذا، بصدد التعامل مع مبادرة الجامعة العربية، لم يذهب وليد المعلم، وزير خارجية النظام، إلى درجة شطب الجامعة العربية من خريطة الكون؛ أو ضمّ الدول العربية إلى اللائحة التي توعدها بالويل والثبور إذا تعاملت مع المجلس الوطني السوري، أو اعترفت به. صحيح أنّ مندوب النظام الدائم لدى الجامعة العربية أرغى وأزبد، هناك في القاهرة، إلا أنّ ‘الأجواء الإيجابية’ التي أعلن النظام انها سادت اجتماع الأسد مع وفد الجامعة العربية، كانت هي كلمة السرّ في إعلام النظام، إسوة بالترغيب بدل الترهيب.
بيد أنّ الدبلوماسية ليست، بالطبع، هذه الـ’حرتقات’ الصغيرة التي يديرها أمثال وليد المعلم وبثينة شعبان وفيصل المقداد، في نيويورك أو في موسكو أو في بكين؛ بل هي، في المقام الأسبق، ذلك التبرّم الذي أخذ يعتري خطاب حلفاء النظام، من روسيا إلى الصين إلى إيران؛ وارتفاع ‘المنسوب’، اللفظي على الأقلّ، للتوصيفات التي صارت تصدر عنهم لدى الحديث عن أعمال العنف والقتل والمجازر المرتكبة بحقّ المتظاهرين السوريين العزّل.
والدبلوماسية هي، كذلك، ما يقوله ألان جوبيه، وزير الخارجية الفرنسي، من أنّ سقوط النظام صار حتمياً مهما استغرق من وقت؛ وما تعنيه مغادرة السفير الأمريكي روبرت فورد، الآن تحديداً، ولأسباب قد تتصل فعلاً بارتخاء قبضة النظام على بعض أجهزته ومشايعيه ومناصريه، بحيث يمكن أن يتعرّض السفير إلى ما هو أشدّ وطأة من الحجارة والبيض. والدبلوماسية، في ما هو أهمّ من هذا وذاك، هي أيضاً المصير الأسود الذي انتهى إليه دكتاتور حليف، هو معمّر القذافي؛ والمصير التالي الذي ينتظر الدكتاتور الحليف الآخر، اليمني علي عبد الله صالح…
وفي مقابل معارف النظام، التي تنشغل بتطويع الأداة وتربية الوحش، ثمة تلك المعارف الموازية التي اختزنتها الانتفاضة الشعبية، وتختزنها كلّ يوم، والتي تنشغل بتطوير أنساق المقاومة، وتربية وعي سياسي وإنساني وطني وديمقراطي كفّ عن كونه مأثرة الانتفاضة الكبرى، لكي يصير تراث سورية اليومي وسلاحها الأمضى.
وها أنّ ضباط الفرقة الرابعة ينتقلون من حال التخبط والتعثر إلى حال الانتكاس، وبينهما حال الحيرة أمام أسئلة موجعة: لماذا؟ إلى متى؟ وما العاقبة في نهاية المطاف؟ وها هو غياث مطر يغادر صورته الأولى، فتى داريا الباسم الوادع المنشغل بعروسه وبأهله وبمهنته الشعبية، ليصبح واحداً من رموز سورية، فيتردد اسمه على الشفاه والألسن والقلوب، كما على اللافتات والصور، في رأس كلّ التظاهرات. ‘إصلاحات’ النظام يمسخها الحراك الشعبي إلى أضحوكة، وألحان القاشوش تنتصر على قاتليه فتتردد على ألسنة مشايعي النظام في الساحات ذاتها التي حلم الشهيد بالغناء في جنباتها، ولم يبق من دبلوماسية السلطة سوى تلك النكات التي تروي ‘هلع’ الأوروبيين من أن يعاقبهم النظام بمنع تصدير ‘علكة سهام’ إلى أسواقهم!
تربية أداة مقابل تربية إرادة، وتراث قتل مقابل تراث حياة، وسوري شبيح مقابل سوري ثائر، ولا عزاء في هذا للذين ينزّهون سورياً عن قتل شقيقه السوري؛ والمعركة، التي دخلت شهرها الثامن، اقتضت تسيير الدبابة وراجمة الصواريخ والحوّامة، ضدّ الصدر العاري والأهزوجة الشعبية ورسم الكاريكاتير؛ وبالتالي فإنّ حصيلتها الأهمّ، حتى الساعة، هي عجز السلاح عن كسر الإرادة، وصمود المواطن الأعزل الباحث عن الحرّية في وجه المواطن الشبيح المناصر للاستبداد، وسقوط معارف النظام أمام معارف الشعب. أمّا الحصيلة الختامية فإنها انتصار الانتفاضة ذات ساعة آتية لا ريب فيها، ولعلّها أقرب أجلاً ممّا يظنّ الطغاة ومؤسسات تربية الوحوش الكاسرة.
‘1 كاتب وباحث سوري يقيم في باريس