معتقلونا: كي لا ننساهم
إبراهيم اليوسف
اتصل بي صديق كاتب عزيز، يبدي رأيه حول وتيرة أداء شباب الانتفاضة في سوريا، مقدّماً وجهة نظره الخاصة، داعماً رأيه بكل ما لديه من مسوّغات، وهو صاحب رأي وموقف، كما أعرف. إلا أن هناك –دائماً- ثمّة شرخ بين الواقع والإمكانات، بين الحقيقة والحلم، وهو ما يجب الانتباه إليه برأيي.
وللحقيقة، يبدو أن النظام لما يزل عازماً على أن الحلّ الأمني هو –الوصفة الناجعة- لقمع كل من تسول له نفسه بالتطاول، وطلب استحقاقه من جرعة الحرية، والشروع المتأخر بالتململ من الكابوس الأمني الذي يرزح على صدورنا، وصار يعدد أنفاسنا، ويحصي خفقات قلوبنا، ويدسّ أذنه في أجهزة هواتفنا، وعيونه في حواسيبنا، ويرسل كتبة تقاريره إلى مجالسنا، بعد أن طوروا أدواتهم، وصاروا يستفيدون من تقنيات ثورة المعلوماتية في إنصاتهم إلينا، بوساطة ميزات في أجهزة الهاتف، أو عبر”فلاشات الميموري” في أمثلة موصوفة، من قبل بعضهم!.
إن هذا الحل، حتى وإن اكتسب بعضاً من الانتصار الخلبي، من خلال التلذذ بمنظر إراقة الدماء، وهي تسيل على إيقاعات أصوات الأسلحة الأوتوماتيكية، التي ترتعد أوصال الأطفال لمسمعها، سواء أكان ذلك في حمص الصامدة-المدينة التي أحمل ديناً لها بذمتي، واعتبرتها إلى بعض من الوقت، مدينتي الثانية، أو غيرها، من مدننا الباسلة، إلا أن هذا الحل الأمني-كما أشرت وفعل ذلك غيري- يضرّ بصاحب الوصفة، قبل من يدفع ضريبتها من روحه ودمه.
ولعلّ ما يدفع إلى الألم أن العالم برمته صامت إزاء ما يجري، وثمة تواطؤ واضح سواء أكان من قبل الجامعة العربية، أم من قبل البلدان العربية، ناهيك عما يوازيه من احتجاج دولي خجول، وهو في صميمه مباركة فعلية لذبح السوري، لولا تلك المفاجأة الأردوغانية، التي تجعل المرء يتنفس الصعداء، وإن كانت أمام الرجل، أسئلة تتعلق باستحقاقات مواطنه الكردي، بالشكل المطلوب، بل وإن كان التضامن المطلوب -هنا- هو تضامن الموقف، وإن الإعلام الحر لما يزل قاصراً عن تقديم الجريمة، كما هي، بل ليعد ما يحدث في سوريا مضاعفاً من حيث روح الانتقام، قياساً لما يجري في اليمن، بعشر مرات -عدد الشهداء في اليمن لم يصل بعد إلى100 شخص بعدبينما عدد شهداء سوريا يكاد يقارب الألف- وإنه يوازي من خلال درجة الهستريا والحقد ما يتم في ليبيا، مع فارق ملاحظة أن المواطن السوري سيظل يلوح بغصن الزيتون والورد، ولا يقبل بالتدخل الأجنبي، وإن كان النظام لما يزل يستمرىء عدم السماح للمنظمات الحقوقية العالمية للإطلاع على حقيقة ما يتم، لأنها على يقين من أن الكذبة التي أطلقت رسمياً من قبل آلته، وبات يروج لها الإعلام، اعتماداً على توافر غطاء مكشوف، من قبل المتهافتين من الفنانين، من أمثال دريد لحام، وسليم صبري، وغيرهما كثيرون، كما أن منهم من دعا للانتقام من الأم “منى واصف” وغيرها، وكفروا فنانينا أصحاب الموقف، واستعدواالشبيحة عليهم، وهو نفسه ما يقال على الكتبة والمثقفين الأشباه الذين يلتقون مع الفنانين، في محاولة تطهير اليد الآثمة، وتقديمها في مظهر المخلص، بيضاء، في إهاب لون ثلج القداسة، مع أنها ملطخة بدم مواطننا وأهلنا، وبسرقة لقمة هؤلاء جميعاًويستعدون على أشراف كتابنا الأحرار.
وتحت ظل مثل هذا الوضع المأزوم، تتزايد قوافل وطوابير المعتقلين، على نحو مروّع، حتى وإن كان المعتقل جريحاً، لأنه لم يوقع على ورقة بيضاء ،يؤكد فيها أنه تابع، ومندس، ومأجور، ومدفوع له، من جهة معادية وغير ذلك، وهو طالب الإباء والكرامة والمواطنة الكاملة. وإن أعداد هؤلاء المعتقلين قد صارت الآن بالآلاف، فإنه لابدّ من أن يتم العمل من قبل الجهات الدولية للضغط من أجل السماح للجاننا الحقوقية في سوريا بأن تفتح باب تقديم المعونة لأهلهم، ولأسرهم، ناهيك عن تمكينهم من تأمين الدواء، وإن عدم القيام بذلك خيانة، وتواطؤ مع القاتل، ليتمّ منع أي تصدق عليهم، من جهة ما، من خارج حدود الوطن.
أكثر من صديق لي اعتقل، وكانت أسرته لا تملك ثمن خبزها اليومي، ناهيك عن المصاريف الأخرى، التي تلزم كل أسرة، وهو ما دفعني كي أتساءل عن انعدام الضمان والتعاون بين أهلنا، ولعل سبب ذلك هو الإرهاب الأمني، الذي نجح في أن يقطع كل آصرة جميلة، إنسانية، تربط المرء بجاره، وأهله، وحتى أسرته، يكمن وراء كل ذلك.
إن المواطن الذي يتم اعتقاله، لا بد على من حوله من أن يشعروه بأن أسرته في مأمن من جوع، ومرض، وإذلال، وهو أضعف ما يترتب على من هو متفرج على من يؤدي رسالته النضالية، الأمر الذي لم يتم في حدود معرفتي، بل يقيني، لا معنوياً، ولا مالياُ، وأكاد أسمي الأحزاب والأثرياء من جهة، وكذلك المعتقلين ولاسيما المستقلون منهم، مثقفين وحقوقيين، من جهة أخرى، وذلك على ضوء علاقتي الواسعة بأوساط جلّ المعتقلين، شأن غيري الكثيرين، طبعاً.
وعن الدعم المعنوي، فقد روى لي أصدقاء معتقلون كثر، منذ سنوات وحتى الآن، إن أول ما يتبادر إلى ذهنهم ويشعرهم بالاطمئنان،وهم في منفرداتهم، أو زنزانتهم، أوفي المهاجع الجماعية التي ينامون فيها “تسييفاًًًًً”، أنني وعدد من أمثالي ممن دأبوا الكتابة عنهم حقوقياً وإعلامياً -ولاسيما من مناضلي حقوق الإنسان الجبابرة-، أول من يعولون عليهم، وهم في معزل عن العالم الخارجي.
وشخصياً، أتذكر كم أن وقفة الشباب الكردي-في الخارج-كانت مهمة أثناء انتفاضة12 آذار المباركة، وهوما أريده أن يظل في إطاره المعنوي، لا أن تتقهقر تلك الروح تجاه الأهلين، في أصعب مرحلة يتعرضون لها.
ولقد آلمني اعتقال صديقي الشاعر إبراهيم بركات على خلفية قصيدة، كما آلمني اعتقال الصديق عبد الصمد محمود وزميليه، من أجل دعوتهما لإقامة أمسية شعرية، فقدموا من أجل الشعر للقضاء العسكري، وهو ما حدث مع صديقي سيامند إبراهيم الذي اعتقل من أجل اقتناء كتب أدبية عربية وعالمية، مترجمة للكردية، وهكذا بالنسبة إلى صديقي حواس محمود، أو حفيظ عبدالرحمن، أو كمال شيخو وكلهم مستقلون، كما آلمني اعتقال صديقي المناضل الفذّ حسن صالح، ورفاقه أو مشعل التمو ومصطفى جمعة وكل معتقلي أحزابنا سواء أكانوا من حزب يكيتي أو آزادي –أومن معتقلي حزب الاتحاد الديمقراطي الذي تتم مطاردتهم على نحو بشع، بل وهو شعوري إزاء معتقلي الحركة الوطنية السورية بشكل عام.
ولكم آلمني أن بعض من أشرت إلى أسمائهم تعيش أسرهم في ضنك العيش-ولا أرغب في أن أفصل هنا-من دون أن يسأل عنهم أحد، وما أريده هو أن يعلم أبناء مجتمعنا السوري من درعا وحتى عين ديوار، أن اعتقال أي مواطن سوري يعني اعتقال أحد أفراد أسرته، وهذا ما سيعدّ ضرباً من النضال، ناهيك عن أنه سوف يعيد إحياء الروابط التي نسفت عنوة. وإذا كان بعضهم قد تخاذل، أو تهاون، قبل الآن أمام اعتقالات معينة ولم يقدموا يد المعونة لهم ولأسرهم – وأشير إلى حالتي سيامند إبراهيم وإبراهيم بركات مثلاً وهما مستقلان بل وهما غيض من فيض – فإن هناك الآن أمانة كبيرة ، وثقيلة، في أعناق كل شريف من هؤلاء، من أبناء بلدنا سوريا، وما عليهم إلا أداء هذه المهمة الجليلة، على جناح السرعة، لأن النظام يريد استطالة زمن المواجهة، وهذا ما يجعلنا أمام تضحيات كبيرة، قبل تحقيق الهدف المنشود لمحتجينا السلميين، في الهواء، والكرامة، والخبز.