معجزة الشعب السوري الثائر!
بول شاوول
عندما اعلن “الجيش الحر” سيطرته الكاملة على محافظة الرقة (مساحتها 20 ألف كلم مربعاً، أي ضعف مساحة لبنان تقريباً)، تدفق الناس إلى شوارع المدينة، يرقصون ويهتفون ويغنون ويدبكون محتفلين بانتصارهم، وفجأة انهمرت عليهم الصواريخ الأرضية، وقنابل الطائرات الحربية (الروسية).. انقصف فرحهم بالموت في لحظة. وتساقط القتلى والجرحى.. في مذبحة تُحسب للنظام الممانع و”لعلمانيته” و”لمدنيته” ولديموقراطيته ولشغفه بـ 99,99 بالمئة! و”للاارهابيته”. لكن المدهش في الثورة السورية وهو لم نجده تقريباً في أي ثورة مسلحة أخرى، هو تجاور الموت والفرح والغضب، قلما شهدنا مثل هذه الظواهر: طائرات النظام تشن غارات، صواريخ سكود، القنابل العنقودية. والبراميل المتفجرة، جيش النظام في “فتوحاته” اليومية الخاسرة، والجيش الحر في تقدمه الجغرافي في المحافظات والمدن.. والدم والمجازر. والقتلى. ليفاجئك الناس الذين يعانون انقطاع الكهرباء والخبز وفقدان الأهل الراحلين والمهجرين.. يفاجئك هؤلاء بانطلاقهم متظاهرين في الساحات في لحظات يُعبّرون فيها عن ثورتهم بالفرح والهتاف والتنديد كأنها نيازك لامعة في فضاء شاسع من العتمة والموت والدمع. هذه اللحظات لم نرَ مثيلات لها لا في الثورة البولشفية ولا في معارك ستالينغراد ولا في الانتفاضات المسلحة. لحظةَ الدمع تتحول لحظة اشراقةٍ بالبسمة (بسمة من وراء الغيوم). لحظة الاختباء تتحول فجأة لحظة ظهور. لحظةَ الجمود في المخابئ ووراء الجدران وخلف المتاريس، لحظة أجساد وأيد وشفاه وصيحات ورقص ولافتات وهتاف.
فمن “احتفاليات” النظام بما يرتكبه من فظائع إلى احتفاليات الثوار منفتحة على كل الحالات. على كل الانفعالات. هذا يرفع الكوفية ويدبك. وهذه المرأة تزلغط. (كأنما عرس قائم) وهؤلاء الأطفال يضيئون الهواء ببراءاتهم… وهؤلاء الشيوخ والعُجّز ها هم يرفعون شبابهم على جباههم المنفرجة. وهذه أذرع تلوح بعلم التحرر: العَلَم السوري الآخر علم الثورة صار يشبه هواء دمشق وسوريا.. يشبه الناس. الأرض. الحدائق. البيوت. السهول. الغيوم. لم يعد يشبه النظام. ولا لوناً من ألوانه. ولا رمزاً من رموزه. ولا قماشاً من قماشاته. فكأنما بات للعلم وجه آخر. وشفاه أخرى. وزمن آخر. وقسمات أخرى. وصوت آخر: يرقص العلم قبل الراقصين. يخفق مع خفقات القلوب. يعتكر مع اعتكار الدماء. صار شخصاً بل أشخاص. بهويات الأحلام والآمال! هذا العلم “الجديد” يذكر بسوريا “السابقة” الناهضة في الثلاثينات والخمسينات الديموقراطية. المتنوعة. الطليعية. السلمية. سوريا الصراع السياسي. سوريا الحرية. سوريا التظاهرات.. سوريا الوحدة. سوريا الازدهار. سوريا العروبة. سوريا الانفتاح. سوريا التغيير قبل مجيء هذا النظام بعدة انقلابات ارست أخيراً على نظام الأسد، بقوة السلاح، والبطش فبات عَلَم “الانقلاب” هو نذير منعطفات تاريخية: الشمولية بدلاً من التنوع. الاستبدادية بدلاً من الحرية. السجون بدلاً من المنازل. القتل بدلاً من الحوار. الحزب الواحد بدلاً من تعددية الأحزاب. ثم المنطقة الواحدة المهيمنة بدلاً من الشعب. ثم العائلة بدلاً من تعددية الأحزاب. ثم العائلة بدلاً من الجمهورية. ثم الهزائم. تلو الهزائم. عَلَم النظام يُخيم على كل هذه الانحدارات والجنون والعنف والطغيان: يشبه من يستظله في السلطة. يشبه الأيدي الملطخة بالدم. يشبه أصابع الفساد. يشبه 99.99% المزيفة! يشبه “ايديولوجيا” الاقصاء… ليصير مظلة لخروج النظام عن العروبة. آه! عندما يقرر العلم في الأيدي المشرعة، وبين الأصوات يصبح الأعلى والأشمل . انه الوطن وهل ما هو أرفع من الوطن. انه الحلم وهل ما هو اخصب من الحلم؟ هذه الظاهرة السورية بامتياز أي مجاورة الموت والحياة. الدم والتظاهرات. تعجب منها: فقد ظننْتُ، ومعي الكثيرون ان الأشهر السبعة أو الثمانية الأولى كانت التظاهرات الوسيلة الوحيدة للانتفاض، شأنها شأن الأقطار العربية الأخرى، من تونس إلى مصر، فإلى اليمن، فإلى ليبيا (في بداياتها في بنغازي) لكن شاء النظام أن يختار القتل. القمع. القوة. البطش. أخافته تلك الجموع السلمية فواجه خوفه بالمجازر.. وعندما أراد الشعب أن يواجه السلاح بالسلاح، وتصاعدت المعارك، وتدخل الطيران، والدبابات والمدافع وراجمات الصواريخ (جربوها في لبنان!) قلنا صار لون المواجهات واحداً: الدفاع عن النفس بالسلاح. وتحرير البلد من النظام بالسلاح. قلنا انتهت لغة المظاهرات التي لا يفهمها الطغاة. قلنا، خلت الشوارع إلا من المسلحين والمقاتلين والشبيحة (إلى الأبد!) وجيش النظام . قلنا: لم يعد من مكان للتظاهرات السلمية في الشوارع. لم تعد الباحات ولا الطرقات تتسع لغير البنادق. ولغير المقاومة المدججة. لم يعد الفضاء يتسع إلا للعلعة الرصاص والقذائف والجثث. لم يعد للصوت الانساني، أو للأجساد العارية وللجموع العزلاء، أن تُعبّر عن ثورتها وغضبها وأحلامها إلاّ باللغة التي فرضها عليها هذا النظام. لكن وهكذا، ومن دون خوف، أو الأحرى وسط الخطر والمجازفة ها هي جموع في حمص أو في حماة، أو في دير الزور، أو في أدلب، فجأة تحتل الشوارع هكذا كالمعجزة وتستعيد طقوس “المقاومة” الأخرى: السلمية وسط القتل، والموت، والخراب. والدمار: زمن في أزمان عدة. هنا رقص وهتاف وصراخ ليسقطوا النظام، وبأصوات عارية ، وهناك في الجوار أو أبعد، معارك طاحنة. أو هنا، محل التظاهرات كان لمجازر النظام، الضحايا.. ثم، ومن الأزقة ومن الدروب تتوافد الناس “تحجّ” إلى ساحاتها، كأنما تحّج إلى ما بعد الموت. أو ما قبل الموت. أو ما فوق الموت. أو ما أشد من الحياة. أو ما أرفع من الحزن. أو ما أسمق من الخوف. نحن هنا: أثناء المعارك. قبلها أو بعدها في عز المذابح. قبلها أو بعدها فما هذا الجنون الجميل. جنون اللحظات الخطرة. القاسية وتقول: أي بسمة هذه وسط كل هذا الحطام والدمار؛ أتكون بسمة شبيهة بالحجارة المفتوتة. أتكون دمعة مأخوذة من دم طفل. وما هذا الهتاف، أيكون مزيجاً من الأنين، والهمس والصراخ؛ تقول ذلك وتخونك أقوالك عندما تجد البمسة، والمواكب والهتاف والأيدي وكأنها تُحِّوِل تلك الأمكنة والقامات إلى ما يشبه مزارات الحياة. فجأة كأنما تحس ان هذه الجموع، كل يوم جمعة أو على مدار الأسبوع… أو الأشهر.. وحتى السنوات، تذكر نفسها بأنّ وراء الموت وقبله وقربه وفيه ما هو اكبر منه. ما يعجز الآخرون عن فهمه. ان تحمل في يد المنيّة وتتقدم، وفي اليد الأخرى نهاراً آخر. ان تنسحب من العين اليسرى فظائع تراها، وفي اليمنى شمس أخرى. ان تحرك قدماً في الهاوية وأخرى في السماء.. هذه هي المعجزة الكبرى التي يجترحها الشعب السوري. بهذه الحيوية الفائقة الأشبه بالإيمان. يقاوم. بل كأنه يُذَكِّر العالم كله بأنه قادر على الصمود في المعارك والمواجهة وجحيم النيران قدرته على احساسه بالحياة. بل أن هذا الشعب العظيم، يواجه فنون التواطؤ والتآمر وحتى الشفقة أو المصائر الغامضة، بتعابير تمسكه بهذه الدنيا وبهذه التربة وبهذه الأجساد بل كأنه يريد أن يقول: إن جرائم النظام وحلفاءه من روس وإيرانيين وحزب الله الأسود هناك، والشقي والجاحد والمتنكر لكل القيم لا تنهي شغفنا بالأمكنة. ولا بأجسامنا وان تعبى هنا، أو مهيضة، أو مصابة. نحتفل بأجسامنا في عز الموت لأننا نحتفل بأمكنتنا في عز التدمير. والحرائق” فالأجسام أيضاً أمكنة وعلينا ألاّ نقولبها لتشبه عقول الطغاة. وأبدانهم الميتة، المُجَّثّثة. الموميائية. المنتنة . كأنما يقولون: المعارك دائمة ولكن عندنا متسع للأوقات ولتنفقد الذكريات. المعارك تجري في الأمكنة. ولكنها تُحيا أيضاً بالحواس. فقصور الطغاة ومزارعهم.. قبور تضم أجداثاً واقفة على حطامها حين تتحول مجرد اشياء. مجرد آلات للقتل . فهؤلاء بلا أمكنة. ولا جهات ولا سماءات ولا حواس ولا حتى عقول: تعبر عن حضورها بالمحو هؤلاء “ناس” بلا ناس. بشر بلا بشرية. لا شيء! اجسادهم صماء، عمياء. جوفاء: موتى الأمكنة والتواريخ. يتامى الحياة اذ كيف تكون الحياة حياة اذا عاشت بدم الأطفال والنساء والعزل. فالموت قبل الطغاة واثناءهم وبعدها. بلا زمن. هذا ما يعشيه مذعوراً النظام السوري. نظام بلا ناس. بلا مساحات. انها عزلة الآلات المعطلة عزلة الوجود المعدم. فهل يستطيع أحدٌ في هذا النظام سواء ممن حوله ان يرى اي مساحة. أو اي باحة: يدبك فيها أو يصرخ. أو يعبر عن شيء، كما تفعل جموع الثورة؟ لا ! لأنه فقد الاحساس بالأرض والهواء وبالانسان. فالحجر لا يحتفل بالحجر. ولا الموتى يحتفلون بالموتى فهؤلاء يفعلون ما فعله سابقوهم ونظراؤهم من الطغاة: الجنون الحجري. لا ضوء في عيونهم. ولا ماء في وجوههم . ولا حياة في ايديهم. ولا صوت في كلامهم. من هتلر إلى موسوليني فإلى ستالين.. فإلى بول بوت .. ولا شيء! يعيشون على فكرة المحو. الالغاء. التصفية: هكذا بَرمَجهم الطغيان والجنون والهوس: وجهة واحدة بأمراض كثيرة. انهم الحاضر الآفل. كل ما تبقى منهم يوحي الأفول. حتى الذين يؤازرونه من الخارج. كحزب ايران في لبنان، وحرس “ولاية الفقيه” واحفاد ستالين.. لا يختلفون عنهم لا في عقولهم التالفة، ولا في “ايمانهم” المزيف، ولا في عدوانهم. ولا في استصغار المظلومين، والخضوع للدكتاتوريين: دكتاتوريين بدكتاتوريين: من حزب الضواحي عندنا الذي لم يوفر عدوانه في 7 أيار، اللبنانيين ولا يوفر عدوانهم الآثم اليوم على الشعب العربي السوري إلى تلك الصحف المرتزقة المذهبية، التافهة، المتواطئة، المشاركة عبر خيانتها الانسانية والعروبة ولبنان، في تبرير قتل الشعب الذي يواجه طغاته. فهؤلاء، من اقلام مبيعة، ومأجورة (ونعرفهم كلهم من الطقطق للسلام عليكم، وتاريخهم مع انظمة الطغاة: كانوا دائماً منحازين بالرشوة إلى هؤلاء الطغاة ضد شعوبهم: فيا لحبرهم الأسود ويا لاصابعهم المعروقة بدماء الشهداء) كأنما بتنا في عالمين متناقضين: أبناء الحرية والتحرير، مقابل العبيد والعملاء والمتآمرين على احلام الناس، هذا ما رأيناه في لبنان (8 آذار ظاهرة سوداء ) واليوم في سوريا . 8 آذار والنظام السوري ولا سيما ولاية الفقيه (وتابعها حزبها!) تحركهم الكراهية وحتى العنصرية ضد كل ما ليس في صفوفهم وضد العروبة… لكن ها هي الجموع في الساحات. من اقصى سوريا إلى اقصاها، تحركها الأحلام، يحركها شوقها إلى ان تكون موجودة! إلى ان تكون الأرض ارضَها، والقرار قرارها والتاريخ تاريخها والعروبة عروبتها والسورية سوريتها والحرية حريتها، ولهذا، يتجاوز في هذه الثورة الشعبية العظيمة في وجه انظمة ارهابية على رأسها روسيا وايران وسوريا الشارع وفضاءاته والبندقية. التشييع والشهادة والأصوات. الموت والأمكنة الحية. القتل والتظاهرات الشجاعة والقلوب العالية (فيا لخسة عدوان حزب الله الالهي على هؤلاء: الوصمة العظمى على الجباه!) الاستشهاد وحب الحياة.. تأملوا الكميات التي يرجم بها هذا النظام ناسه: من قصف الطيران إلى الدبابات، إلى راجمات الصواريخ، إلى البراميل المتفجرة ، فإلى صواريخ سكود.. وتأملوا ما أوقعت غدراً من شهداء في المنازل والطرقات وما دمرت من مدن ودساكر.. تأملوا ذلك ثم تأملوا مشاهد التظاهرات السلمية التي لا يفوتها لا الشيوخ ولا الشبان ولا النساء ولا الصبيان.. تروا بوضوح ان هذا الشعب لن يقوى عليه ملكوت الجحيم ولا قوى الخراب…
هذا الشعب الذي لم يُخلِ مواقعه القتالية لم يخل أيضاً ساحات الحضور الانساني، ساحات الأمكنةالحية، ساحات التذكير بأنه حمل السلاح.. كضرورة وكحاجة ولولا ذلكَ.. لملأت الملايين الشوارع والمدن.. وصولاً إلى “قلاع” النظام التي صارت من ورق!
بول شاوول
المستقبل