صفحات الثقافة

معرض السوري سعد يكن.. الالتباس الجميل/ احمد بزون

هي أعمال تهرب من الموت، أو هي الحياة المحاصرة بالموت، وربما العكس، فأنت أمام كل لوحة تستطيع أن تطرح الأسئلة كلها، فاللوحة هنا لا تصور الواقع ولا تصفه، إنما تتعامل معه بروح نقدية عميقة، وبكشف يبدأ باللطف حيناً وينتهي بالنزق حيناً آخر، لتتحول الحياة التي يصورها الفنان إلى حال قلق دائم، أو إلى كتلة من الحوارات الصاخبة التي تضج بها كل المساحات اللونية.

هذا ما يتخيله الداخل إلى معرض الفنان السوري سعد يكن، القائم في غاليري «أرجوان» لغاية 19 تشرين الثاني الجاري. والذي يضم 33 لوحة بأحجام مختلفة، مشغولة بالأكريليك والزيت، يستعيد ببعضها ذاكرة الأبيض والأسود من البدايات، في حين يأخذنا في معظمها إلى تجليات العتمة والإضاءة، من خلال الأسود والأحمر والأصفر والأزرق، في لعبة درامية تحول اللوحة إلى مسرح للعبة الأصل والظل، النور والعتمة، الفرح والحزن، ومزيد من الطباقات التي تولد جدلاً وحيوية لا يهدآن.

لوحات يكن مختارات من أعماله في السنوات من 2007 حتى 2011، كأنه أراد أن يبعد سني الحرب الدامية من سجل المعرض، أو هو يهرب من قسوتها فيحاصرها بذاكرة الحياة المشتعلة في مدينته حلب، بالفرح والهموم معاً. مع ذلك فالقسوة أسطع حضوراً، تصل حدود الكابوسية والفجائعية. يستعين عليها بمزيد من التشويه الذي يجعل التجهم والعبوس والحزن صفات لا تفارق شخوصه، حتى أولئك الحالمين بنساء مثيرات. هذا بالإضافة إلى قسوة الخطوط والتقاطعات الحادة والتجريح الذي يطاول الكثير من مساحات اللوحة، بالإضافة إلى هتك الأشكال وهزّها، وتهديد الواقع ما أمكن، كأن يرفع العيون إلى أعلى الوجه، أو يرخي القدمين ويعرّيهما دائماً، حتى باتت هذه التعرية لغزاً يضاف إلى الألغاز الكثيرة التي يقف أمامها مُشاهد المعرض.

غالباً ما يصور يكن شخوصه في المقاهي، وبين الكراسي والمقاعد المرتفعة في البارات، وهي الأماكن التي يحمل روادها همومهم إليها، أو يهربون منها إلى مثل هذه الأماكن فتبقى عالقة بوجوههم، أو يخففونها بالتسلية والموسيقى والرقص. لكنه يميل بمقاهيه إلى المقهى التراثي، إلى فرق الغناء والموسيقى في الملاهي أيضاً، وقد برزت لوحة صبري المدلل مع تخته الشرقي في إحدى اللوحات.

المشهدية المسرحية، التي يقدمها يكن بتأليف أشكال لوحته وتوزيع الضوء فيها والاهتمام بما يشبه السينوغرافيا، لا يمنع اندفاعه الدائم نحو الخارج، وحفره في الأحاسيس والتفاصيل وإيماءات الوجوه، هذا الغوص يتناسب وانفلاتاته التكعيبية، في بحثه عن أكثر من وجه في الوجه الواحد والبحث عن مساحات جديدة وتكثيف المسطحات، بالإضافة إلى تقطيع الشكل وتكسيره أحياناً.

ما نراه دائماً ابتعاد شخوص اللوحة المحتشدين والمتلاصقين أحياناً عن العلاقة الحميمية، وانشدادهم أكثر لحياة العزلة، ففي لوحة «البار» ثلاثة رجال متلاصقون، ومع ذلك يعيش كل منهم عزلته وينظر في اتجاه مختلف، بل ربما نشعر أحياناً بأن الثلاثة هم واحد متعدد الوجوه، مثلما يرينا في بعض اللوحات وجهاً مزدوجاً، كأن الآخر ظِلُّ الأول أو صداه أو قناعه أو تبدل حاله وتغير مزاجه. هي حال من الفصام يعيشها ساكن العزلة في ظل كوابيس المجتمع وحالاته السوريالية والقمع الذي يحمل ندوبه أينما حلّ.

لا ندري ما الذي يفعله يكن في وجوهه، هل هو ينزع أقنعتها أم يقنّعها، ولماذا يقدم، إلى جانب كل تلك المأسوية والسوداوية واليأس، لغة تميل حيناً إلى كاريكاتورية وسخرية مرة، ثم يفتح اللوحة أحياناً على النقيض، فيحضر الغناء والرقص والأحلام الزهرية، وتحضر حركة الإغراء وفتنة الأجساد والأنوثة… ربما هي وجوه الحياة!

لوحة يكن عائمة على تفاصيل يومية وذكريات واحتجاجات، فهو يغلف المعنى بنقيضه، كأن يفتح العزلة على سماء زرقاء، وما عليك إلا أن تغوص من دون أن تكتشف كل شيء، فالالتباس الجميل سيد العلاقات… ويد الفنان تنسيك همومه!

أحمد بزّون

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى