معضلة النظام الأمني
د. طيب تيزيني
كان عام 1958 تاريخاً استثنائياً بالنسبة للشعوب العربية، فلقد ولدت في سياقه أول وحدة قومية عربية، وكانت بين سوريا ومصر. وقد أعلِن عن ولادة هذا الحدث الكبير، دون المرور بمرحلة تأسيسية انتقالية تتم فيها دراسات موضوعية للبِنى والحقول السياسية والاقتصادية والقضائية… إلخ في البلدين. أما الهدف من ذلك، فهو دراسة الظروف المحيطة أساساً بعملية التوحيد من طرف، والعمل على بناء استراتيجية التوحيد بوصفها تعبيراً عن أنسب الاحتمالات المطروحة في حينه من طرف آخر. لكن هذين الأمرين كليهما لم يؤخذا بعين الاعتبار. فلقد جاءت الدعوة للوحدة بقدر ما، تعبيراً عن صراعات سياسية داخلية في سوريا.
أما ذلك التعبير عن الصراعات المذكورة، فقد تجلى في أمرين اثنين، هما السرعة في إنجاز ذلك دونما بحث أو درس أولاً، ووضع شرط أساسي وحيد على تحقيق الوحدة، هو إلغاء الأحزاب السياسية والمجتمع السياسي والحراك السياسي. وبدلاً من ذلك كله، فُرض على البلدين، مصر وسوريا، نمط من التنظيمات الشمولية والقسرية، سُمّي “الاتحاد الاشتراكي العربي”، ولم يَطُل الأمر، حتى ظهرت علامات الفساد والترهّل والتصدع في المجتمع الوحدوي الجديد. وفي هذه الحال، اتضح الخطر الأعظم، وهو غياب وتغييب القوى الحية الكفيلة بتصويب الأمور، واكتشفوا أن ما كان عليه أن يحمي الوحدة، كان قد تصدع قبل إنجازها بالحراك السياسي في مجتمع سياسي تنتجه الأحزاب الديمقراطية الناشطة. في ذلك المنعطف التاريخي، أخذنا نسجل أمرين اثنين. يقوم الأول منهما على مجتمع الوحدة الجديدة الخالي من أدوات مواجهة الخلل الكبير والمشكلات المستجدة، بحيث راح حضور القوى المناهضة لهذه الوحدة يتعملق ويسدّ الأفق. أما الأمر الثاني فراح يتبلور في تفكك المؤسسات وتغييب المساءلات والضوابط القانونية، مهيِّئاً لنشوء نظام أمني مؤسس على الاستبداد والفساد. وقد نشأ في سياق ذلك، تهدم المشاريع الموضوعة على بساط البحث والتنفيذ، مشروع التنمية الزراعية خصوصاً والتقدم والتحديث، ومشروع العلمنة بحدود أولية، إضافة إلى تطوير القدرة العسكرية الرادعة لإسرائيل (كما كانوا يعلنون). وينبغي القول إن النظام الأمني الجديد راح ينمو في الحياة العامة تحت أسماء متعددة . وسيبرز ما راح يعرف بالجيش العقائدي والجيش غير العسكري، وكلاهما سيتمم الآخر عبر وظيفة مشتركة، هي وضع الحاليْن في خدمة الطغمة الصغيرة ذات النسيج الطائفي أو المافيوي. وفي هذا وذاك وذلك، تتحدد مهمات الآخرين من الأوساط الشعبية ووضعهم في خدمتهم أولاً، وفي تجفيف المجتمع المصري والسوري (وغيرهما من المجتمعات العربية الأخرى) من كل احتمالات ورهانات التقدم باتجاه الثالوث المؤسس على الحرية والكرامة والكفاية المطلوبة.
لم يعد الجيش جيشاً لحماية البلد العربي المعْني والدفاع عنه، ولم يعد الأمن في خدمة الشعب ومراقبة الفاسدين والمفسدين ومهرِّبي الأموال ومبيِّضيها. وثمة ملاحظة ذات أهمية كبرى، هي أن مكوِّنات الجيش تتحدر (في أوساط القيادات الحاسمة وحدها) من مجموعات متجانسة باعتبار تلك النُّسج المذكورة من أُسرِي وعائلي وطائفي ومافيوي، وبهذا، نجد أنفسنا، حقاً، أمام خط من الدولة هو الدولة الأمنية، التي تضبط ذلك كله في خدمة قمة الهرم، الأوليغارشية المذكورة.
وحيث يكون الأمر على هذا النحو، الذي يُراعى في تكوينه أن يكون مغلقاً، وأن يُنجز مهماته بدقة، حيث يحقق مهمتين اثنتين حاسمتين، الاستمرار بالسلطة (إلى الأبد)، ووضع اليد على ثروة البلد بمنابعها الطبيعية والصناعية، يداً بيد مع إبقاء الإعلام في قبضة أولئك، والزعم بأنهم هم وحدهم من يقود الدولة والمجتمع. ها هنا تتضح فكرة تقوم على أن استئصال هذه المجموعة يمر بمرحلتين، إنزالهم من السلطة، والتأمين للمشروع الوطني الديمقراطي.
د. طيب تيزيني
أستاذ الفلسفة – جامعة دمشق
الاتحاد