معلّم جغرافيا في “عين العرب”/ موسى بيطار *
لم أتوقّع، عندما تقدّمت لمسابقة تعيين معلمي جغرافيا قبل الأزمة السورية بعدّة سنوات، سوى أن يكون عملي في إحدى مدارس مدينتي حلب أو في قرية قريبة، أسوة بالمعلمين المدعومين باستثناء من مسؤول. اعتمدتُ على جهود أبي ونفوذه وتوقعت أن يساعدني عندما صدر قرار تعييني في عين العرب، لكنه لم يحرك ساكنا، ليس لأنه يرفض مبدأ الوساطات، فأبي لم يكن قدّيسا، كما أنّ معارفه كثر في مديرية التربية بحلب، ولكن كما فهمت، أراد أن يعاقب الابن الضال الذي خرج عن تقاليد الأسرة التي تمتهن التجارة أبّا عن جد، ودرس الجغرافيا (أي تعليم وخرائط، وأي جبال وأودية.. هذا كله لا يطعم خبزا ولا فجلا). ومع ذلك راق لي أن أتمرّد على سلطة أبي وأن أُسافر إلى عين العرب وألتحق بوظيفتي. ولن أنسى فرحتي بأول راتب قبضته، في أيام عزّ الليرة السورية.
مع بداية العام الدّراسي 2006، حملت حقيبتي الصغيرة مع بضعة كيلوات من صابون الغار والزعتر الحلبي، واتجهت إلى كراج هنانو، الشريان الأساسي في قلب المدينة، والذي كان يعج يوميا بمئات الباصات وآلاف المسافرين إلى كل أرجاء سوريا، وأمسى حاليا خط تماس، مسكونا بالقناصين وبرائحة الموت. وفي العام الدراسي 2008، سوف تضطرني ظروف عملي للتعرّف على الكراج الجديد جنوب المدينة في منطقة الراموسة، والذي أمسى اليوم، هو الآخر، مهجورا من ضجيج السائقين والمسافرين، ومسكونا أيضا برائحة الموت.
لم أكن أعرف شيئا عن عين العرب، مع أنني حفظت كالببغاء في منهاج البكالوريا تاريخ بلدي وجغرافيته عن ظهر قلب، ودخلت الامتحان ونلت أعلى الدرجات، وإن كان أنهم لم يسألوني عنها، ولا عن مئات القرى المحيطة بها. سألوني عن موريتانيا وجزر القمر، كما سألوني عن زراعة الأرز في الصين والأفوكادو في أمريكا.
كان الباص، على طول مسافة المئة والخمسين كيلومترا، يتمايل طربا على غناء باقي خضر ومحمد دومان. لأول مرة أسمع أغنيات من التراث الشعبي الكردي وأنسى صباح فخري وأغنيته المفضلة عندي “يا مسعدك صبحيّة”، وإن كنت اليوم أضحك على خيبتي، فأي سعد وأي صبح؟
توجهت فور وصولي إلى المجمّع التربوي. هنا لصابون الغار والزعتر دورهما الفعّال ومفعولهما السحري في تجاوز الروتين واستكمال المعاملات المعقدة لمباشرة العمل، وهنا أيضا يجب الاعتراف أنّ أحد أصدقائي من حيّ الشيخ مقصود بحلب زودني برقم هاتف ابن أخته جوان لمساعدتي في تأمين غرفة للإيجار، فاتصلت به. حضر جوان، وهو شاب في العشرين، مصطحبا معه أخته الصغيرة نيروز ذات الجدائل السمراء: “أستاذنا، نَوّرت كوباني، أنت في ضيافتنا، وأهلا بالمعلم وبالجغرافيا السورية كلها”.
منذ اليوم الأول، اكتشفت عالما آخر من “الفسيفساء السوري”، العبارة السورية المشهورة التي يحلو لنا أن نستخدمها كدليل على تنوعنا. وطوال فترة إقامتي التي استمرت إلى منتصف شهر نيسان 2011، اكتشفت أيضا أنّ ّهناك مدينة صغيرة تنبض بالحياة: بيوت بسيطة وحوانيت صغيرة تعجّ بالبضائع المحلية، ومدارس للتعليم الأساسي، وثانويات بمختلف فروعها، ومعامل تُصنّع الحصّادات والحفّارات، وأراض زراعية واسعة تزرع القمح والقطن وغيرهما من المزروعات المشهورة في سوريا. أناس محبون ومخلصون، كابدوا هواجس أحلامهم وأسئلتهم المشروعة حول تلك الجذور والهويات المنسية.
كانت أيامي في عين العرب مليئة بالعمل. فعلى سبّورة الصف أكتب الدروس التي أقوم بتحضيرها كل ليلة. أحببت الأولاد وأحببت ضجيجهم الموسيقي في كل حيويتهم وفي كل حماستهم في التعلّم وتحضير لوحات الحائط، على الرغم من أنّ التسرّب من مدرستي والمدارس الأخرى كان يزداد فصلا دراسيا بعد فصل، فأشتاق إليهم وأبدأ رحلة البحث عنهم في ورشة أو في حقل، وأفشل في استرجاعهم.
وانطلاقا نحو غد أفضل، لن أنسى المشهد الصباحي في مطلع كل أسبوع، فمع كلمات خليل مردم بك وألحان الأخوين فليفل، كنا نحيي العلم ونحن ننشد “حُماة الديار عليكم سلام”، لكنني كنت أقرأ امتعاضا في وجوه بعض المعلمين، وفي استراحات الدروس وعلى هيصة الأولاد في الباحة كان هذا الامتعاض يتحوّل إلى أسئلة كثيرة تحاصرني، مع أنني لم أكن وزيرا ولا أشغل منصبا في عضوية مجلس شعب أو في إدارة محلية، كما لا تتوفر عندي أدنى مواصفات أغلب المسؤولين في بلدنا، مثل كرش الوجاهة وصبغة الشعر السوداء الداكنة ومفردات اللغة الخطابية الخشبية.. أنا فقط أستاذ مثلهم، هاجسه التعليم وتأمين قوت شهره. لكنني صرخت بوجههم: للأكراد ممثلوهم المنتخبون في مجلس الشعب، فصرخوا بوجهي: أستاذنا، لماذا لا يحق لنا تعليم اللغة الكردية في كوباني أسوة بتعليم اللغة الأرمنية واللغة السريانية في مدارس طوائفكم بحلب؟ وأيضا، لماذا لا يحق لنا إصدار صحيفة أو افتتاح إذاعة، على الأقل إف إم، وسوف نبث لك قدود صباح فخري وكل موشحاته.. أستاذنا، لماذا لا يحق لنا تأسيس جمعية أو حزب من منطلق التعددية المنشودة مع كل بيان حكومي. كنت أحاول التملّص من كل هذه الأسئلة ببيت شعر أو بقول مأثور. ولكن عندما كانوا يحاصرونني بشدّة أستشهد بقول السيد المسيح “يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”، وسرعان ما يصرخون بوجهي: أي غفران؟ إنهم يعلمون ماذا يفعلون.
يبدو أنه كان عليّ أن أكتشف هذه المدينة الصغيرة التي جئت لأعلّم فيها وأنا لا أعرف شيئا عنها ولاعن تركيبتها الإثنية ولا عن طبيعة تربتها ولا عن سحنات أهلها، مع أنها ضمن محافظة حلب، وكأنّ المسافة بينها وبين حلب تمتد لآلاف الأميال. فاستغربت كيف حصلت على أعلى الدرجات وأنا لا أفقه شيئا عن مدن وطني وقراه. حملت أقلام التلوين مثل تلميذ صغير في الصف السادس لأحاول أن أرسم قدر الإمكان ما أجهله، وصرت ألوّن هذه الحدود الشمالية الشرقية المفتوحة على مصائرنا المجهولة في حلب وفي عين العرب معا. من لعب بخرائطنا الصغيرة؟ لا أعرف، لأنني يبدو لم أدرس الجغرافيا جيدا وأجهل طقوس المدّ والجزر، وتأثيرات البراكين والزلازل.
* كاتب من سوريا
السفير