مـــا تستحقّـــه سوريـــا
أنسي الحاج
مهما كانت الحقيقة، يَغْلبها الدم. والدم المكشوف أكثر من الدم القديم.
ما يجري في سوريا لا يُحْتَمَل. قَمْعُ المتمرّدين بالدبّابات جنون. إذا قيل إن النظام استُدرج إلى الدم نقول: كان عليه أن لا يُسْتَدْرَج. المطلوب تختصره كلمة: الحريّات. كان على النظام (ولا يزال… هل هناك وقت؟) أن يترك لشعبه الحريّات دفعة واحدة بدون تقسيط ولا حَذَر وبأقصى سرعة. من أجل سوريا لا من أجل النظام. إذا كانت مؤامرة، ونحن نعتقد مع المعتقدين أنّها إنْ لم تكن كذلك يجب التنبّه الدائم إلى عدم الإفساح لمَن يقتنصها ويوظّفها في لعبةٍ ما من ألعاب الأمم، حتّى لا نقول ألعاب الأمّة الواحدة ذات الرسالة الأميركيّة الخالدة ـــــ فإنّ سَحْب الذرائع من مستعمليها يُعرّي الواقع ويحمي الجميع.
عندما نلفظ كلمة أميركا أو الغرب يقول معترض: وما بهما؟ أليس التأثّر بهما أفضل من البقاء عند أطلالنا وفي أغلال طغاتنا؟ عمَّ ندافع وعلامَ نخاف ومجتمعاتنا العربيّة في منتهى التخلّف؟ أليس اقترابنا من النماذج الغربيّة إسعافاً وتَرقّياً؟ وهل بدأت مصر وبلاد الشام تتقدّم في القرن التاسع عشر إلّا بناءً على الانفعال بالثقافة الغربيّة وقيم الثورة الفرنسيّة؟
اعتراضٌ في محلّه. الحيطة ليست من التفاعل مع الثقافة الغربيّة ـــــ وهذا من مطالبنا وقد غالينا فيه شخصيّاً حدّ التغرُّب وقريباً من انقلاع الجذور ـــــ بل الحيطة من غربٍ، أميركي بالتحديد، يريدنا عصريين على السطح وأكثر تخلّفاً واندثاراً واستسلاماً للموت في الواقع. يريدنا مُصدّرين للنفط ومستهلكين للسلع وأَجراماً طيّعة في الفَلَك الإسرائيلي. وهل تكون روما الجديدة غير روما القديمة؟ وهل تختلف روما عن أخرى في نظرتها إلى المستعمرات وفي كيفيّة «تطوير» تبعيّتها؟ لقد استفادت الولايات المتحدة من التجارب الاستعمارية لبريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وهولندا والاتحاد السوفياتي وغيرها قديماً لتبتدع نموذجاً جديداً من الهيمنة أكثر واقعيّة، سلاحها الثقافي الأول هو السينما، وأدواتها الأخرى مدنيّات من نوع الطعام والشراب والجينز والتخاطب بلغةٍ تقتصر على بضع كلمات، مدنيّات عَولميّة تُسهّل المعيشة على خلفيّة توحيدها في نهجٍ واحد وشكل واحد وفولكلور واحد لم يعد ينافسها في أحاديّته غير النموذج الصيني، لا من حيث النفوذ، بل بسبب المليار ونصف المليار الذين يكادون، في نظر الأجناس الأخرى على الأقل، يشكّلون شخصاً واحداً.
إذا قارنّا أحوالنا البدويّة والصحراويّة والديكتاتوريّة والمتعصّبة بالديموقراطيّات الغربيّة فقد لا نخرج من المقارنة بغير اليأس وتَمنّي العدوى. ولكنْ هل العدوى ممكنة بسلامة أم هي طُعْم لإحكام السيطرة وتسهيل استمرارها دون أخطار ومفاجآت؟
ما نخافه ليس انهيار أنظمتنا، وانهيارها عَذْب كأجمل الألحان، بل تجزئة بلداننا وتفتيتها كما حصل في أوروبا الشرقيّة وكما يبدو حاصلاً في ليبيا واليمن والسودان وما يقاربه في العراق. كلُّ ما يُعْمَل على خلفيّة التجزئة وإحياء النعرات العرقيّة والمذهبيّة والطائفيّة هو إمعانٌ في قتل شعوبنا وتجهيلها وتكليس أبواب قبورها.
……….
لا فائدةَ من العنف. نسوق هذا إلى السلطة في سوريا التي قد تكون نُصحت، تحت ستار الحرص عليها، بأن لا تضعف أمام المتمرّدين بل أن تبطش. قد يستقرّ الأمر للنظام عن طريق العنف ولكن المقام سيكون على الجماجم لا بين المواطنين، وبين أمواج الاستسلام والضغينة لا على الرحب والسعة. كان الناس يخافون من السلطة وباتت السلطة تخاف من الناس، وها هي تريد العودة إلى بسط هيبة رعبها على الناس كأنه لم يكن هناك «ربيع دمشق» ولا وعود لبشّار الأسد. لا يستطيع نظام بشّار أن يظلّ وحده واقفاً في العالم على هذا النمط وقد تساقطت جميع الأنظمة الفرديّة والعائليّة في الشرق والغرب. كوريا الشماليّة ليست قدوة بل هي الأنتي ـــــ قدوة. كوبا كذلك. كان المطلوب من بشّار (ولا يزال… هل هناك وقت؟) أن ينقلب على النظام لينفضه ويُعَصْرنه لا أن يستسلم لروحٍ لا تشبهه ولا تشبه جيله ولا طبعاً أجيال اللحظة.
فرصةٌ أخرى أتيحت لبشّار لم يغتنمها. كان عليه (ولا يزال… هل هناك وقت؟) أن ينقل بلاده إلى مرحلة التحديث الديموقراطي معيداً، لا نقول أمجاد سوريا، بل تاريخها الديموقراطي السابق للانقلابات العسكريّة وحكم البعث، حين كانت تغلي بالحياة السياسيّة والفكريّة الحرّة أكثر من لبنان ومن أيّ بلدٍ عربي. عند مبايعة الأسد الابن، ما انطبع في الأذهان هو صورة الشاب المنفتح العلماني الحديث. كان عليه (ولا يزال… هل هناك وقت؟) أن يثق بالشعب ويعطيه ما يطلب وأكثر ممّا يطلب، ففي يده ذلك ولو لم يُصدّق، ومن حقّ الشعب ذلك ولو تأخّر في المطالبة به. كان عليه (وما زال… هل هناك وقت؟) أن يكون قويّاً لا أن يستعمل القوّة.
ليتوقّف خطاب الحجج هنا وهناك، وليسارع كلّ طرفٍ إلى إنقاذ نفسه من نفسه أوّلاً. لا أحد ينتظر شيئاً من الجامعة العربيّة ولا من الأمم المتحدة، هيئتَي العجز والتواطؤ والشماتة والنعي.
مطلوبٌ صحوةُ وعيٍ من السوريين ترقى بهم إلى ما تستحقّه سوريا من نكرانِ ذات. وللسوريين على اختلافهم نقول: حذار الثأر! المجتمعات التعدّدية، إذا استسلمت لتبادل الخوف ولنوازع الحقد والانتقام، تفجّرتْ عن بكرة أبيها وارتمت عمياء في لجج الهلاك.
نعم سوريا، والعرب جميعاً، فريسة مؤامرة. كلّ لبنانيّ اليوم قلبه على سوريا. كلّ عربي، حتى أولئك المهمومون بحروبهم الداخليّة. وسوريا في غنى عن النصائح، فهي، أكثر من أيّ بلدٍ عربي آخر وأكثر من أيّ وقتٍ آخر، تعرف أين هو الحل لمشاكلها. إنه مكتوب بأحرف صارخة زادها الدم صراخاً: حريّة!
فليُقْدِم النظام. لقد أتيحت له فرص عديدة ولم يُقْدِم. فليُقْدِم. إذا فعل فسيُحبط المؤامرة على سوريا وعلى سائر الأمّة.
سوريا كبيرة والوقت صغير.