مـــوت المصـــوِّر
عباس بيضون
المحاضرة كأساس لعرض يعتمد أيضاً الشاشة والصورة كما يعتمد تفكيك ظاهرة واستخراج محاورها، اتجاه لا يسلكه ربيع مروة لأول مرة، «الثورة المبكسله» واحدة من تجلياته. يقول ربيع ان المصوّر لا يذهب ليصور موته، انه يذهب بحثاً عن حياة ثانية، لكن مفارقة الحياة/ الموت أكثر تعقيداً ولا يمكن لحل «منطقي». ان يفكها. لا يذهب المصوّر ليموت ولا يذهب المتظاهر ليموت لكنه يذهب والموت احتمال قائم، موته احد احتمالين فهو أما ان يموت وإما ان يخرج حياً. المتظاهر والمصوّر إذا تكرر خروجه فإن الحلقة تضيق واحتمال الموت يرتفع تقديره، انه يقترب من الموت أكثر كلما تعدد خروجه. لا أريد أنا ان ادخل في المنطق المضاد لكن المجازفة بالذات، المجازفة بالحياة هي ببساطة كاملة مجابهة للموت. ان الموت كثمن لحقوق بسيطة وبديهية، كثمن لما يمارسه ملايين وربما مليارات في هذا العالم يومياً وكشرط حياتي وإنساني، الموت كثمن لما لا يكلف كثيرين شيئاً ولما يحصل عليه كثيرون كمبدأ ملازم لوجودهم، الموت في سبيل أمر مجاني بهذا القدر ثمن فظيع. انه يعني ان في وسع المرء ان يموت ليس في سبيل حريته الخاصة ولكن في سبيل الحرية كقيمة ومبدأ. يعني أيضاً ان في وسع المرء ان يحرم من الحياة ليتمتع آخرون سواه بالحرية. الحرية أمر يتقاسمه الأفراد ويتقاسمه الناس وقد يضحي فرد بحرمانه من الحياة وعواقبها من أجل ان تسود وان يتمتع الآخرون بها. ذلك يعني مثالاً لا برهان عليه، هو ان الفرد يستمر في قيمه كما يستمر في الآخرين، كما يعني ان الحياة تساوي أحياناً معناها. وقد يسأل احد ماذا يساوي المعنى إذا كانت الحياة نفسها زائلة. ماذا يساوي المعنى حين تزول الحياة. سؤال لا نجد حجة لدحضه لكن الناس في أجزاء من سوريا اليوم يتسابقون لنيل هذا المعنى بثمن الحياة نفسها. وبالنسبة لهؤلاء فإن الموت ليس نهاية الحياة ما دام هناك آخرون يقاسموننا أياها وما دامت هناك قيمة ومعنى ينسبان إليها. هناك يمكن فك مفارقة الحياة/ الموت ولا يمكن للموت ان يسود وان ينفي كل شيء. ليس ضروريا ان نجازف بحياتنا، يكفي اننا لا ننكر على الذين يجازفون مجازفتهم، يكفي اننا لا نعتبر تضحيتهم هراء واننا نجد معنى لها كما نجد فيها لوناً من الاستمرار، ولا نرفض هذه التضحية أو نستنكرها أو نعتبرها عديمة المعنى. يكفي ذلك لنكون في شراكة ما مع الذين يجازفون، ولتكون تضحيتهم مقبولة منا وليستمروا فينا وفي القيم والمبادئ التي ضحوا من أجلها. الجماعة تملك عندئذ أواليات اتصالها كما تملك شبكتها الداخلية كما تملك هذه القدرة على تأسيس معنى مشترك، وتلك القدرة على الاستمرار استمراريتها ودوامها. الموت في سبيل مبدأ يمنح الميت حياة المبدأ نفسه والشراكة البشرية فيه، الذين يموتون في سبيل الحرية يعولون على ذلك. يقول أحد المنازعين في نشرات الجزيرة «لو قتلتنا جميعاً فلن تنتصر» هذا المنازع لا يتأسف لموته الشخصي ولا يخاف منه. انه يملك تجاه مبدأه الثقة التي تتخطى حياته وحياة الآخرين. إن مبدأه حي ولا يستطيع الموت ان ينال منه، انه حي حتى لو مات الجميع.
هل نصدر عن هذه القيم، المثل أم نتوجه إليها، لا نتوقف عند الأطروحة الأفلاطونية، لكن الموت سيكون اتحاداً مع القيم والمثل، اتحاداً داخل الحياة وداخل الجماعة وبشروط الحياة نفسها وقواعدها. الحرية ستكون هبة هذا العالم واتحاد الأشخاص معها سيكون داخل هذا العالم وبقواعده. الموت سيحرر والموت سيجعل حياة صاحبها ممتدة ومتصلة، وسيعيد غرسها، الحياة، في مجال آخر.
لا بد اننا لا نفهم بالمنطق البسيط. كيف يصر السوريون 365 يوماً في السنة على الخروج والمجازفة 365 مرة في السنة بالحياة. ذلك لا نفهمه إلا على انه لا اكتراث بالموت قد يكون بلغة اخرى لا اكتراثا بالحياة. السوري الآن هو الذي لا يرهب الموت ولا يخافه، هذا لا يعني بالطبع انه يريده. انه فقط يرفض ان يكون جسده أو حياته مقابل حريته، إنه يرفض ان يستعملا لإخضاعه. يرفض ان يخضع لمجرد التهديد بإيذائهما أو تحطمهما، السوري بعكس ذلك كله يستخدمهما هو، يستخدم قدميه وصوته ويديه ورأسه، وحياته بالتالي، في سبيل حريته. انه يفعل ذلك 365 مرة في السنة وهو بذلك يرفع احتمال موته إلى نسبة متزايدة. لقد قلب اللعبة، جسده له وحياته له وهو يحارب بهما ومن أجلهما. انهما وسيلته للاحتجاج والاعتراض، انه في هذه اللحظة حر تماماً، لا يقبل أن يكون عبداً لأي تهديد، لا يقبل ان تكون حياته ضد حريته ولا جسده ضد حريته، يعرض ربيع مروة في محاضرته صوراً لذلك المصوّر الذي كان يصوّر القناص وانتبه له القناص فأصابه. لا ندري ماذا جرى للمصوّر بعد ذلك لكننا نعرف ان القناص يستطيع ان يصيبه لا ان يبتزه. يرد ربيع جسارة المصوّر إلى مشهدية وضعه الذي جعله يفترض أن كل ذلك اشبه بالتمثيل وبالتالي لا خطر عليه. اظن ان المصوّر لم يؤخذ باللعبة ولم يتصور نفسه في شبه مشهد سينمائي. كان فتش عن عين القناص. وكان يعرف بالتأكيد ما هو القناص، واعياً في الغالب للخطر الذي يحيق به. كان المصوّر يريد ان يضبط القناص، يريد ان يضبطه لحظة جريمته، لم يكن يمثل، كان بالتأكيد يلعب الحقيقة. كان هذه اللحظة قاضياً أو محققاً يريد أن يمسك جسم الجريمة، كما يقال. لم يكن امام موت افتراضي. كان امام موت حقيقي وممكن، لكنه كان أيضاً امام فرصة ضبط القاتل وتجريمه نهائياً، فلم يقبل بأن يضيع هذه الفرصة، هذا التحدي للموت هو خاصية الثورة السورية. نعرف انه من المتوقع ان تؤدي مجزرة واحدة إلى كسر التحرك، هذا ما كانه رهان النظام لكن 365 مجزرة لم توقفه. 365 مجزرة لم تخرس السوري ولم تخضعه، السوري المصوّر هو كالسوري المتظاهر لم يسأل ماذا سيصيبه إذا هو خرج، هذه هي الحرب والدم يصبغ الأرض والجدران والقتلى يتساقطون كل يوم، كان المصوّر يبحث عن القاتل ويعرف ماذا يتهدده، يريد ان يضبط عين القناص ويعرف ان عينه في رشاشه. المصورون بالتأكيد تحت أعين القناصة وهم أول من تخطر لهم إصابته. هذه لعبة خطرة، لا مجال فيها للتمثيل ولا لوهم التمثيل، انه الموت الزؤام لا الموت الافتراضي. المسافة بين المصوّر والقناص أضيق من أن يلعب فيها الخيال. إنها علاقة ثنائية بينهما. المسرح صغير للغاية، عين المصوّر على القناص وعين القناص على المصوّر ولا مجال هنا لمشهدية واسعة أو لخيال ملحمي. الموت متربص كل لحظة ولحظته هي المهيمنة المتسلطة والاثنان (المصوّر والقناص) يقفان على حده. يراقب كل منهما عين الآخر، حتى إذا انطلقت الرصاصة أعمت المصوّر ودمرت اللحظة أو انفجرت فيها.